طرابلس ــ فريد بو فرنسيس وسط زحمة السير والضجة الكبيرة الآتية من ساحة التل في المدينة، تدخل إلى حديقة طرابلس العامة «المنشية»، كما يقال لها هنا. يستوقفك عند أحد المداخل رجل سبعيني قست عليه الدنيا، علّ أحد رواد الحديقة الكثر يحسن إليه بما يسد جوعه. عدد من الأولاد يسلكون ممرات المنشية حاملين «سندويشات» مختلفة الحجم من الفلافل والبطاطا المقلية. أصواتهم المرتفعة تخرق هدوء المكان. تتناهى إلى الجالسين تحت الأشجار الوارفة ضجة هي مزيج من صراخ سائقي تاكسيات مواقف الساحة التي لا تهدأ، ونداءات باعة المطاعم المجاورة. وتخترق صوت دقات ساعة التل الشهيرة، أصوات الأغاني التي تصدح من كل جوانب المنطقة.
في المقلب الآخر من المنشية، يحاول بعض الصبية من ماسحي الأحذية، اللحاق برجل عجوز محاولين إقناعه «بتلميعة» لحذائه. فيما يحاول هو أن ينأى بنفسه عنهم، متكئاً على عكاز. مقاعد المنشية تبدلت أشكالها وحتى ألوانها لكنها لا تزال تحافظ على بعض من اللون الأخضر القديم الداكن. يتوزع على المقاعد الخشبية أشخاص يتفيأون شجر «الزنزلخت» العتيق، يدخنون سيكارة مقابل بركة الماء المشهورة التي خفّت مياهها إلى حد الانقطاع، ولم يبق منها سوى قطرات قليلة تتساقط من الصحن العلوي، فتقصدها أسراب العصافير والحمام البري لتشرب منها. تحاول أن تسترق السمع لأبي محمود، كما سمعت رفاقاً له من الرجال المسنين ينادونه. كانوا يتحدثون في شؤون السياسة ويعلو صوتهم وجدالهم، وإذا حاولت الاقتراب تكتشف ألا مكان لك بينهم.
حياة الطرابلسيين الكبار مترابطة كثيراً بتاريخ المنشية، فهي مقصودة من الجميع، منهم من يتفيأ ويقرأ جريدة، آخر يتجول ليبيع القهوة، عربات الكعك الطرابلسي منتشرة في كل مكان، حتى المصور ما زال يتحرك كما الأمس، ويتذكر نديم شاهين وهو يرتاد المكان منذ 36 عاماً أيام العز: «لم تتبدل حال المنشية، فهي لا تزال نزهة العامة والفقراء والناس العاديين، وملتقى للمنتظرين وأصحاب المواعيد، ومركزاً يستظل فيه أبناء القرى الزائرين القاصدين عملاً ما في طرابلس». ويبرر شاهين أسباب مجيئه يومياً: «لقد عملت كثيراً في حياتي، وبلغت سني التقاعدية، أشعر اليوم بأن من حقي أن أرتاح، فصارت زيارة المنشية من يومياتي». ويضيف جليسه العم رامز بشير وهو يضحك «هنا تتعرف إلى جميع الناس ومن جميع الفئات والأشكال، تعرفت إلى «الأزعر» و«الآدمي» و«الميلشيوي» و«المعتر». واكتشفت أن المجتمع فيه من كل الوجوه».