قبل تشرين الثاني 1943، كانت قلعة راشيا بالنسبة إلى اللبنانيين مجرد موقع أثري يعود تاريخه إلى القرون الوسطى. لكن اعتقال «رجال الاستقلال» داخل أقبيتها 11 يوماً حوّلها رمزاً وطنياً. فالقلعة باتت تعرف «بقلعة الاستقلال» وأصبحت صرحاً يزوره التلامذة، وتقام فيه الاحتفالات سنوياً
عفيف دياب
يسابق عمال التنظيفات في بلدية راشيا الوادي الوقت تحضيراً واستعداداً للاحتفالات الرسمية بذكرى عيد استقلال لبنان. فالقلعة الشاهد على الحدث يجب أن تكون نظيفة. وهي تغصّ سنوياً بالزوار في هذه الذكرى: يأتونها من مختلف أنحاء لبنان، يدخلون الى أبراجها، يسيرون في أقبيتها، كلهم يريدون دخول الغرف التي سجن فيها الجيش الفرنسي من عرفوا لاحقاً برجال الاستقلال.
هذه الغرف التي لم تبقَ على حالها، وجد الأمير السعودي الوليد بن طلال في ترميمها خير تكريم لجده رياض الصلح الذي كان مسجوناً فيها. فهو شارك كميل شمعون وسليم تقلا وعبد الحميد كرامي وعادل عسيران غرفة واسعة لمدة 11 يوماً فيما كان الرئيس بشارة الخوري معزولاً في غرفة لوحده. وتقول سلوى ناجي المرشدة السياحية في قلعة راشيا إن الغرف التي سجن فيها رجال الاستقلال يعود بعض من حجارتها في المستويات السفلى إلى الحقبة الصليبية والعهد الشهابي، أما الجدران العليا والأبراج فهي تعود الى الفترتين العثمانية والفرنسية. ففي عهد الانتداب الفرنسي حولت بعض الأقبية والغرف الى زنازين للاعتقالات والتوقيف. وتروي المرشدة سلوى ناجي أن القلعة تقسم الى 4 أقسام: أبنية وآثار رومانية، منها دهليز طوله 1500 متر يصل الى عين مري القريبة من حارة الشرفة، وآبار منحوتة في الصخر وآثار صليبية في الأقبية السفلية للقلعة تضم قاعة ومخزناً من الجهة الشمالية الشرقية وبرجاً من الجهة الجنوبية الغربية، وهو يعدّ أعلى نقطة في القلعة ويمكن منه مراقبة طريق قوافل التجار الآتين من فلسطين نحو بلاد الشام، وحماية مواكب الحجاج والمسافرين عبر وادي التيم من دمشق الى القدس في فلسطين.
أما القسم الثالث من تاريخ القلعة فهو أبينة تعود الى الفترة الشهابية أي الى عام 1370، إذ تولى الأمير أبو بكر شهاب ولاية حاصبيا، وكان يقصد راشيا للصيد فبنى منزلاً له داخل القلعة، كما بنى الشهابيون مدخل القلعة والسور والقناطر من الجهة الجنوبية الغربية.
أما الجزء الفرنسي من قلعة راشيا فهو السور العالي الذي بناه الجيش الفرنسي بعد تمركزه داخل جدران القلعة مع بداية الحرب العالمية الأولى. واختيار الجيش الفرنسي للقلعة يبرز أهميتها الاستراتيجية على الطريق الممتدة من دمشق الى وادي التيم. فالجيش الفرنسي لم يتأخر في هدم المنازل المحيطة بالقلعة لاستخدام حجارتها في بناء الأسوار. ولا تزال هذه الحجارة حتى اليوم شاهداً على ذلك، فأسماء بعض أصحاب المنازل (جرجس والياس ومخايل مفرج) موجودة على مدخل القسم الشمالي من القلعة وغرف سجن رجال الاستقلال التي بنيت سنة 1914». عرفت قلعة راشيا أحداثاً مهمة، أبرزها المعركة القتالية في 22 تشرين الثاني 1925 حين اقتحم مقاتلو الثورة السورية، بقيادة سلطان باشا الأطرش، أسوار القلعة لتحريرها من الحامية الفرنسية. وتقول المرشدة السياحية سلوى ناجي إنه في 22 تشرين الثاني 1943: «شهد بزوغ فجر الاستقلال حين أفرج الاحتلال الفرنسي عن رجال الاستقلال بعد سجنهم 11 يوماً».
وبحسب ناجي، كانت جدران هذه الغرف تعاني من تصدع قوي بحيث إن التشققات كانت ظاهرة على الجدران، وكانت بعض الحجارة قد بدأت بالانهيار. لذا، أتت عملية الترميم في وقتها، وهي جرت بحسب المواصفات المتبعة حالياً في الترميمات والتي تبحث عن «الموضة» التي ترى أن جمال الحجر يكمن في إبرازه وتكحيله. بالنسبة إلى الزائر، فقلعة الاستقلال لا تزال على حالها من الخارج، وهي ترتفع فوق بيوت القرية ذات القرميد الأحمر. فهذا المعلم، الذي بات جزءاً من الذاكرة الجماعية للوطن، له مكانة خاصة بالنسبة إلى أهالي القرية. فقلعة الاستقلال جزء من هوية أهالي راشيا. ويقول المواطن الريشاني يوسف علبي (73 عاماً) إنه كان طفلاً حين حضر مع أهله الى القلعة للتضامن مع رجال الاستقلال و«رشق الجيش الفرنسي بالحجارة». يضيف: «نحن اليوم نستعد للاحتفال بهذا العيد الوطني، وهو يعني لي الكثير لأنه من تاريخنا الذي يجب أن لا ينسى»، داعياً الدولة الى «تعزيز وضع راشيا وتوفير الخدمات لها، لأنها قلعة للاستقلال الوطني، وهي تدعى «حصن 22 تشرين الثاني».
أما العامل شامل عساف فلا يجد وقتاً للحديث، وهو منهمك «في تنظيف الساحة لأن القلعة ستشهد احتفالاً بالاستقلال». ويتحدث المواطن سلمان عساف عن أن قلعة راشيا «صامدة منذ مئات السنين، ونحن في راشيا نحافظ عليها، كما أن الجيش اللبناني اتخذها موقعاً له».
استعدادات أهالي راشيا لاستقبال ضيوف «قلعة الاستقلال»، يقابلها استعدادات أخرى يجريها الجيش اللبناني الذي يقيم في الجزء الجنوبي من القلعة التي كانت سابقاً مركزاً لقوات الدرك بعد جلاء الجيش الفرنسي سنة 1946. أما اليوم، فالقلعة في عهدة الجيش اللبناني، الذي حوّل جزءاً منها ثكنة عسكرية.
القلعة التي تنافست عليها الجيوش منذ العصور الوسطى بسبب موقعها الاستراتيجي لم تعرف بعد كل البعد السياحي الذي يمكن أن تلعبه. فهذا الشاهد على تاريخ لبنان القديم والمعاصر يمكن أن تتحول أقبيته الى متحف يخبر في آن واحد معركة الاستقلال وقصة الرجالات الذين سجنوا هنا. فمع الأسف عملية تأهيل القلعة لم تبدأ بعد...