حمزة الحسن *منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، أي في أعقاب احتلال الكويت، بدا واضحاً أن الدور السعودي الإقليمي قد انتابه الضعف والتراجع أكثر مما مضى، وبالتحديد منذ زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس المحتلة وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد.
في بداية التسعينيات انكفأت السعودية على نفسها، محاولة لملمة وضعها الداخلي والتخفيف من أزماتها المالية والسياسية المحلية، وظهرت وكأنها زاهدة في لعب دور إقليمي وجدت أنه لم يفدها كثيراً وقت المحنة، إذ تغيّرت خارطة التحالفات، وانقلب أصدقاء مقرّبون (دول وجماعات وأحزاب) عليها وباتوا في حكم الأعداء. فأهملت السعودية معظم القضايا التي كانت فاعلة فيها، وتخلّت عن دور الوسيط. أمّا المال الذي كان يُسكب من دون حدود، فتحفّظت في دفعه إلى الجهات والدول التي اعتادت استلام المساعدات السعودية المالية.
الزهد السعودي في لعب دور فاعل، شجّع لاعبين عرباً آخرين للقيام بمحاولة سد الفراغ، وأغراهم بتسجيل مكانة لهم (قطر، والى حدّ ما الأردن). واستمرت السعودية في سباتها الخارجي إلى أن وقعت أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، وما تلاها من سقوط نظام صدام حسين 2003. حينها بدأ السعوديون بـ«نصف إفاقة» متأخرة على وقع تنامي الدور الإيراني في المنطقة. ذلك الدور الذي، بقدر ما كشف عن عجز مقيم في النظام العربي، حفّز، من جهة أخرى، السعودية للقيام بدور ما إزاء اضمحلال دورها وتصاعد المخاطر الإقليمية التي قد تصيبها في استقرارها.
ومع نصف الإفاقة المتأخرة تلك، استمرّ العجز السعودي، وتزايدت الخسارة والنفوذ السياسيان في المحيط الإقليمي والإسلامي. والواقع أن جملة أسباب تقف وراء تراجع الدور السعودي، ومن بينها:
أولاً ــــ أن النفوذ السياسي السعودي لم يكن فاعلاً ومؤثراً إلا بالتفاهم مع الدول القطبية في العالم العربي، مثل مصر وسوريا والجزائر. فهذه الدول المحورية كانت تمنح الدور السعودي قوة ومكانة وتأثيراً. ومع انفلاش هذه المجموعة واختلافها، انهار النظام العربي الإقليمي. وما زاده سوءاً في البداية خروج مصر عن دائرة الصف العربي بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، ثم جاءت السعودية وفجّرت الخلاف مع سوريا، ما أضعف الدور السعودي نفسه.
ففي ظل نظام عربي منهار، واختلاف دوله المحوريّة، لا يمكن للسعودية، مهما أوتيت من قوة، أن تستعيد مكانتها ودورها.
ثانياً ــــ اعتمدت السعودية على سياسة بذل المال والهبات والمساعدات على طائفة كبيرة من الدول، وقد كان المال مسهّلاً وميسّراً للسعودية لتمدد نفوذها وتعمم خيارها السياسي. لكن، منذ بداية التسعينيات، وبسبب الضائقة الاقتصادية يومها، فضلاً عن تغيّر المنهج السياسي، قلّصت السعودية من مساعداتها، وبالتالي لم يعد لها دالّة على الكثير من الدول التي كانت تستلم المعونات وتتنازل عن بعض مواقفها تماشياً مع الموقف السعودي.
ثالثاً ــــ كان النفوذ السعودي الخارجي، وإن تمتّع بقدر من الاستقلالية في بعض القضايا، يتنفس في فضاء النفوذ الغربي/ الأميركي. وقد وجدت دول كثيرة أن الرياض هي البوابة الجيّدة لواشنطن. لكن النفوذ الأميركي في المنطقة تراجع سياسياً وشعبياً، ولم تعد السعودية أثيرة لدى واشنطن مثلما كانت في الماضي، بل إن بعض الدول وجدت أن إسرائيل أفضل من يمثل هذا الدور، فربطت علاقاتها معها بصورة علنيّة أو سريّة.
ثم إن النفوذ السعودي، الذي كان يتوازى مع النفوذ الأميركي، صار يئن من أعباء العلاقة مع الولايات المتحدة، وأصبحت كلمة السعودية لدى واشنطن أضعف من أن تُسمع أو تحترم. حتى المساحة الاستقلالية الضيّقة التي كانت لدى السعودية في الماضي، والتي عبّرت عنها في مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، خسرتها، وصار لزاماً عليها أن تتنازل أكثر فأكثر لإرضاء الحليف الأميركي، وما المبادرة العربية إلا شاهدٌ على ذلك.
رأت السعودية أنّ ما من قوّة عربيّة بإمكانها أن تحتلّ مكانتها، حتى مع غيابها النسبي، لكنّ المنافس الإيراني بدا قوياً وكاسحاً
رابعاً ــــ لقد تخلّت السعودية عن دور الوسيط الذي كان يوفّر لها هامش الحركة، ويمنحها فرصة التمدد السياسي. ويمكن ملاحظة أن السعودية انخرطت في العشرين سنة الماضية في عشرات الخلافات والمعارك السياسية مع دول مجاورة أو كان لها نفوذ فيها. يكفي أن نشير إلى خلافات السعودية مع قطر التي حُلّت أخيراً على مضض، وخلافاتها المتفجرة مع الإمارات، والمضمرة مع سلطنة عمان، وخلافها مع العراق القديم والجديد، ومع سوريا، والسودان، ومع اليمن بين عامي 1990 ــــ 1994، ومع ليبيا، وغيرها.
ومما زاد النفوذ السياسي السعودي سوءاً، تخلّي السعودية عن دول الأطراف ومشاكلها، فلم تعد معنيّة بموضوع البوليساريو، ولا بموضوع الحرب الأهلية في السودان، ولا بالصومال، ولا بجزر القمر، بل إنها تخلّت عن نفوذها طواعية في أفغانستان، وأهملت الأقليات الإسلامية التي كانت ترعاها في جنوب شرق آسيا، كما تخلّت عن استثماراتها السياسية في عدد من البلدان الأفريقية، التي وصلها النفوذ الإيراني متأخراً ليحتلّ مواقع السعوديين.
خامساً ــــ تغيّر النظرة السعودية تجاه قضية فلسطين، واعتبارها عبئاً يجب التخلّص منه بأيّ طريقة. إن المسألة الفلسطينية بالتحديد ــــ إضافة إلى قضايا إسلامية أخرى أقلّ أهميّة ــــ التي كانت السعودية تبدو كأنها تتبناها إلى حد ما، تمنح النظام السياسي السعودي مشروعية في الداخل، ومكانة في الخارج، وكانت تمثل تجسيداً للموقف الديني الذي ترفع السعودية لواءه باعتبارها حاضنة الأماكن المقدسة. وبتخلّي السعودية عن القضية الفلسطينية في بعدها النضالي والديني، ساهمت كثيراً في إضعاف نفوذها خارجياً، وأوقعت نفسها في مطبّ الصدام مع أصحاب القضية الأصليين (كما هو الموقف السعودي من حماس، وحزب الله، وسوريا المعنيّة مباشرة بموضوع الصراع مع إسرائيل).
سادساً ــــ ظهور القوة الإيرانية السياسية وتمددها في المنطقة العربية (العراق ولبنان وفلسطين) أحرج الموقف السعودي (والعربي عموماً) وأضعفه. وقد وجدت السعودية في ما مضى أن لا قوّة عربية على الأرض بإمكانها أن تحتل مكانتها، حتى مع غيابها النسبي. لكن المنافس الإيراني بدا قوياً وكاسحاً، ولا قبل للسعودية بمنافسته، سواء على صعيد المنطقة العربية، أو في أفغانستان، أو في آسيا الوسطى، أو أفريقيا، وجنوب شرق آسيا، وحتى أميركا اللاتينية، وهي مناطق بعيدة في مجملها عن دائرة الاهتمام السعودي. وإذا ما أسفرت المباحثات الإيرانية الغربية عن تفاهم ما، فإنه بلا شك سيكون على حساب نفوذ السعودية ومصر ومكانتهما الإقليمية.
الدور الإيراني المتنامي لم يغيّر في ما يبدو في التوجهات السياسية السعودية الجديدة، بل على العكس، أصبحت إيران القضية الوحيدة التي تشغل بال السعوديين، بحيث إنها لا تتعاطى مع القضايا العربية والإسلامية الأخرى إلا من زاوية المنافسة، إن كان في لبنان أو في فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو سوريا أو حتى اليمن. ولكي تصدّ السعودية النفوذ الإيراني، رأت استخدام الورقة الطائفية، ما جعلها في صدام مع قوى متعددة (بينها قوى محليّة) قد تجلب لها المتاعب، من دون أن تحقق لها مكاسب فعليّة على الأرض، فضلاً عن استعداء جهات ودول لا تكنّ العداء للسعودية، ولا ترى في تنامي دورها مشكلة لها (العراق الحالي مثلاً).
سابعاً وأخيراً ــــ يبقى القول إن الوضع الداخلي السعودي القلق من تصاعد العنف القاعدي، وتأخر الإصلاحات السياسية، وزيادة السخط الشعبي، والخلافات بين أجنحة الحكم، وسيطرة شخصيات هرمة على زمام السلطة، انعكست آثارها على حماسة الحكم في لعب دور خارجي متميّز.
* باحث سعودي