أنسي الحاجالأضاحي
تحكي الأساطير كيف أن أغلى القرابين تَرْخص أمام المرجوّات الكبرى. وفي الأساطير أيضاً أن أسوأ ما قد يحصل، أضاحٍ تُسْفَح لقاء لا شيء. أو يكون ما بعدها أشدّ بؤساً وظلماً ممّا كان قبلها. ولعلّ الكفر بالأوثان قد انبثق من الشعور بهذا الهباء.
كثيرون منّا، إن لم نكن جميعنا، سُفحوا قرابين ذات يوم أو هُم سَفَحوا أنفسهم، والأوفر حظّاً بينهم أولئك الذين كُتبت لهم حياة ثانية بعد المحرقة. وأمّا الذين يُرْمون ويظلّون مرميّين فلا يستطيع شيء ولا أحد أن يخفّف عنهم وطأة القهر. القربان الصغير السنّ قهرُهُ أنّه قُطف باكراً عن غصنه، والقربان الكبير السنّ قهرُهُ أن ماضيه لم يشفع له فضاع كلّ شيءٍ بين الأشداق. تبقى الضحيّة التي لا تُسلّم بهذا ولا بذاك من مبرّرات التضحية بها، تلك التي تتوهّم أن التقادُم يمنحها حقوقاً مقدّسة، وأن نهر العطاء الذي ساهمت به لا يمكن أن يأتي على دورها فيه تقصيرُ شيخوخة أو عجزُ مَرَض، فالإنسان ليس ليمونة تُعْصَر وتُرمى، والمكافأة على بذله حياته لا يحدّها راتب شهري ولا «تعويض» لا يعوّض في الواقع إلاّ ما يعوّضه المسكّن على المريض أو النزهة في باحة السجن على السجين. لشدّ ما تُصْعَق هذه الفئة من الطوباويين حين يأتيها خبرها بقرار، فترى حياتَها أمام عينيها كومةَ أوهام، وكم كان الواحد مخدوعاً بأمان الأيام، مطمئنّاً إلى غدٍ يملك مصيره سواه كما يمتلك مصير سواه هذا، سواه، إلى آخر سلسلةِ الملاّكين ضمن الطاحون الكوني العملاق، الطاحون الدهري الحديث المستحدث على الدوام، الطاحون الذي يلتهم الأعمار وهو يُقْنعها بأنه يُغذّيها، ويقذف إلى العدم بمَن يَستهلك قَذْفَ «القانون» و«المصلحة العامّة»، ويوهم مَن يستبقيهم في خدمته بأنهم مميّزون، ثابتون على الزمان، سادةٌ على المصائر.
لا فائدةَ من القول إن العلّة في النظام. ولا فائدةَ من كلّ الثورات على النظام. إنه الواقع الذي تتغلّب فيه شريعة رأس المال، كان مذ كان، وما زال مستمرّاً مع مزيدٍ من التكيُّف والتطوّر.
وإذا لم يُسفح دمكَ على مذبح تصفية الأعمار سُفح أمام مقتضيات «النجاح»، أشدّ أنواع السباق توحُّشاً.
وأفظع ما في الأمر أنّنا لا ننتبه إلى الأضاحي إلّا بعد فوات الأوان... كأنها الحياة تريدنا أن نتّعظ ضدّ ما تُعلّمنا إيّاه الأخلاقيّات، وتُكرهنا إكراهاً على الذَأْبَنة، وإن لم نستطع، فعلى المرارة، وإن لم نستطع، فعلى الاستسلام.
ولماذا نتظاهر بالدهشة؟ كلّنا ذات يومٍ كنّا ضحايا وكلّنا كنّا جلّادين ودسنا على ضحايا. مع الاعتذار للذئاب، التي لم يعطها اللّه عقلاً تسمو به ويقال إنه لم يضع فيها النفحة التي وضعها من روحه في الإنسان، ومع هذا أبطلتْ مفعولَ المثلِ الذي اخترعهُ البشر «إن لم تكن ذئباً أكلَتْكَ الذئاب». وصوابه «إن لم تكن ذئباً أكلكَ البشر». وصواب الصواب «حتّى لو كنت ذئباً أكلكَ البشر»، بمَن فيهم المبشّرون بالقيم والفضائل. وهذا منذ القِدَم. ومع الصقل والتصفيح جيلاً بعد جيل. والرجاء عدم إرسال أكاليل.

أمّ زكريّا
واقعةٌ حصلتْ رواها لي صاحبها:
زكريّا عاملُ مطبعةٍ يقود سيّارته وإلى جانبه أمّه. يتحادثان في شؤون يوميّة. فجأةً تشعر الأمّ بألمٍ هائل في صدرها، ألم الذبحة.
تُمْسك قلبها ويَصْفرُّ وجهها، فيسألها زكريّا ما بها، فتجيبه: «لا شيءَ، وجعٌ ويمرّ».
ويشتدّ الألم. وكأنها شعرتْ بدنوّ أَجَلها، تقول لابنها بلهجةٍ تريد التطمين: «باللّه يا بنيّ أدرْ وجهكَ عنّي لحظةً فقط حتّى تمرّ الأزمة... لا أريدكَ أن تتضايق».
ومطيعاً إيّاها كعادته أدار وجهه صوبَ الطريق أمامه. ولمّا عاد ونظر إليها بعد دقيقة رآها انزوت في ركنها وقد لفظتْ أنفاسها.
لم تشأ أن يراها تموت.
آخر دَفْقَةٍ من حبّها كانت إراحته من مشهد أشفقت عليه منه، وربما أشفقت أيضاً على نفسها. أخذت حصّتها من الموت بخَفَر مَن اعتاد حصرَ المهامِّ الثقيلةِ بنفسه. أرادت للحياة العاديّة أن تستمر مع ابنها بلا تشويه، كأن مشهد نَزْعها الأخير هو الضريبة غير المحتملة، لا موتها. بعد الموت ستعود الحياة، أمّا مشهد «الانتقال» فصدمةٌ أبديّة.
كان بالزاك يقول إن قلبَ الأمّ هاوية وفي أعماق هذه الهاوية يكمن الغفران. عندما أخبرني زكريّا حكايةَ أمّه رأيتُ فيها أكبر من الغفران.
رأيتُ الفداء.
أنا أمّكَ أحميكَ من مَوتي.
من منظري وأنا أموت حتى لا يسكنكَ خوف موتك.
أنا أمّكَ حملت بك وأحمل عنك حتّى الرمق الأخير.
برَمَقي الأخير.
وما بعده.
لحظة، كلّها لحظة، تغمركَ بعدها الحياةُ وتُنسيك...
■ ■ ■
ليست كل الأمّهات أمّهات. وبعض اللّاأمّهات أمّهات لأشياءٍ أخرى، كالعشق والمغامرة، ولكائناتٍ أخرى، كالشعر والموسيقى. أمّهات من نوعٍ آخر، نوعٍ منعتق غير خاضعٍ للتصنيف الأخلاقي. وسيظلّ ثمّة في الواجهة فئتان من النساء: الأمّ والفراشة. الأمّ مقدّسة، والفراشة مقدّسة. وإلاّ، فلننزع القداسة عن الاثنتين، بل عن الجميع.
وأحياناً تتمازجُ الأمّ والفراشة، فتأخذ الواحدة من صفات الأخرى.
حين أقول الآن «أمّ زكريّا» في هذه الواقعة، أقصد إلى صورة الفداء. وكلّ امرأةٍ تفعل ما فعلته والدةُ زكريّا تلك اللحظة، هي أمّ. كلّ رجلٍ يفعل ما فعلته والدةُ زكريّا تلك اللحظة، هو أمّ. إذا أردتُ أن أتخيَّلَ صورةً مُثلى لأمومةِ الكون لما وجدتُ أروعَ من صورةِ أمّ زكريّا تلك اللحظة.
أخذتْ أمّ زكريّا إجازة منه ثواني لتموت دون أن يَشعر. قالت له: «لا أريدكَ أن تنظر إليّ الآن. انظرْ إليّ بعد قليل».
لم يعد أمامها ما تعطيه إيّاه إلّا هذا الإعفاء، فكُّ ارتباطِ مَرْكَبهِ السائر بمركبها الغارق.
سَكَنَتْني هذه الصورة وسوف تظلّ تسكنني. عاملُ مطبعةٍ فقيرٍ وأمّه الفقيرة. حديثٌ عاديّ في سيّارة درويشة. وموتٌ لم يُمهّد له شيء، موتٌ وديع وداعةً مُطْلَقَة.
خطأ قاهر ومعه اعتذاره.
وزكريّا يسألني ثاني يوم: «قَولك، لماذا طلبتْ منّي أن أديرَ وجهي!؟».


عابـــــرات

توارتْ وراءَ الجمعِ ليلى فخانها
فمٌ كابتسامِ الصُبْحِ يأبى تواريا
أحمد شوقي
■ ■ ■
ما كانت الحياة البشريّة تلك الخيبة للبعض لو لم نشعر دوماً بالقدرة على القيام بأعمالٍ تفوق قوانا.
أندريه بروتون
(الخطى الضائعة ـــــ 1924)
■ ■ ■
في القصيدة، يعقد الوجود ورغبة الوجود هدنة سحابة لحظة، كما يحصل بين الثمرة والشفتين.
أوكتافيو باث
(القوس والقيثارة ـــــ 1965)
■ ■ ■
الشاعر هو مَن يُلْهِم أكثر بكثير ممّا هو مَن يُلْهَم. للقصائد، باستمرار، هوامش واسعة بيضاء، هوامش كبيرة من الصمت حيث الذاكرة المضطرمة تستنفد نفسها لتعيد خلق هذيانٍ لا ماضيَ له.
بول إيلوار
(البداهة الشعرية ـــــ 1936)
■ ■ ■
العين أجمل قاعةٍ للمواعيد.
مالكولم دو شازال
(حس تشكيلي ـــــ 1947)
■ ■ ■
مات رَجُلٌ تحت عجلاتِ طفولتي.
جويس منصور
(مربّع أبيض ـــــ 1965)
■ ■ ■
الأحلام يتفرّج بعضها على بعض وهي تبلغ النشوة.
رونيه شار
(المطرقة البلا صاحب ـــــ 1934)
■ ■ ■
عزيزتي المخيّلة، أكثر ما أحبّه فيكِ هو أنّكِ لا تَغْفرين.
أندريه بروتون
(بيان السورياليّة ـــــ 1924)