إيلي شلهوبيروى أن طفلاً ذهب إلى والده بدفتر علاماته المدرسية، وقد تراجعت معدلاتها. سأله الأب عن السبب فأجابه بأن المعضلة الأساسية هي أنه لم يتمكن من فهم الفرق بين مبدئياً وفعلياً، رغم كثرة الشروح. تفكّر بعض الشيء وطلب من ولده أن يذهب إلى أمه ويسألها إن كانت تتزوج من عريس يمتلك خمسة ملايين دولار. ظنّ أن جواب الأم سيكون على شاكلة «مبدئياً، لا مشكلة، ولكن فعلياً أنت تعرف أنني متزوجة ولديّ عائلة...». كانت الصدمة عندما عاد الابن بالردّ: «طبعاً أتزوّجه فوراً، ولن يستغرقني طلاق والدك أكثر من ساعات». عندها طلب الأب من الابن أن يذهب إلى أخته ويطرح عليها السؤال نفسه، آملاً أن تكون إجابتها كما يشتهي. عاد الولد مجدداً حاملاً رداً شبيهاً في مضمونها بما جاء على لسان الأم. صمت الأب لحظات، قال بعدها: «يا بنيّ، مبدئيّاً لقد أصبحنا من الأثرياء ونمتلك نحو عشرة ملايين دولار. لكن فعليّاً باتت لدينا عاهرتان في المنزل».
طرفة قديمة، استحضارها يأتي على خلفية التطورات الأخيرة في الملفّ الإيراني، التي تبدو العوامل الدافعة باتجاهها لا تزال تكتيكية، رغم اختراقات جنيف. صحيح أن ما شهدته هذه المدينة الأوروبية يعدّ تطوراً نوعياً على أكثر من مستوى: العلاقة مع أميركا (أرفع لقاء أميركي ـــــ إيراني منذ ثورة عام 1979)، والملف النووي (قبول طهران بتخصيب بعض اليورانيوم خاصتها، الضروري لمراكزها البحثية، في روسيا). لكن ليس هناك بعد معطيات تبرر الحديث عن مقدمات لصفقة تاريخية مع الغرب و«الشيطان الأكبر» عناصرها الداخلية لم تتوافر بعد، بشهادة ما آل إليه النزاع الأخير بشأن انتخابات الرئاسة الإيرانية.
حقيقة حصول الانفراج بعد تصعيدٍ لامس حدّ الصدام أمر لا غرابة فيه إذا ما أخذت بالاعتبار طريقة عمل الإيرانيين الذين أصبحوا على ما بات واضحاً أساتذة في تطبيق سياسة «حافة الهاوية»، التي ما إن يبدو أن الأمور قد بدأت تنزلق نحوها حتى تبادر طهران إلى خطوات ترجئ المواجهة وتكسبها من الوقت ما يكفي لتحقيق إنجازات عسكرية تعزز قدرة الردع، وأخرى نووية تزيد تعقيد حسابات الحل. أما واقعة حدوثه بهذه السرعة فقد ألقت مزيداً من الضوء على أسباب الكشف عن منشأة قم وتوقيته والمناورات الصاروخية. بات واضحاً أنها كانت أوراق ضغط على طاولة المفاوضات، التي تفيد المعلومات الآتية من وراء البحار أن روسيا أدّت دوراً رئيسياً فيها (يقول النمّامون إن اختراقات جنيف ما هي إلا ثمرة أسابيع من المحادثات الأميركية ـــــ الروسية، كان التخلّي عن مشروع الدرع الصاروخية جزءاً منها).
لا شك في أن عوامل عديدة أدّت دوراً في بلوغ هذه النهاية، أولها نيّة إيران تجنّب الصدام المباشر مع إدارة أوباما، التي كانت قد توعدت، تحت ضغط الجمهوريين وإسرائيل، بأنها ستتراجع عن سياسة «الانخراط الدبلوماسي» إذا لم يتحقق تقدم ملموس مع حلول اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر أيلول. النبرة التهديدية التي ميّزت ترحيب أوباما بنتائج المحادثات الأخيرة تعكس حذره من النيّات الإيرانية.
يضاف إلى ذلك طبعاً رغبة السلطات الحاكمة في طهران في تجنّب مزيد من العقوبات التي قد تطال سلعاً حيوية كالبنزين، في ظل وضع داخلي غير مساعد، لا شك في أن ما حصل في جنيف سينعكس عليه إيجاباً، إن على صعيد تعزيز خيارات المرشد وزيادة شعبية نجاد، أو على صعيد ردم الهوة السياسية محلياً وطمأنة التيار «المعارض» إلى أن الجمهورية الإسلامية لا تزال عقلانية في مقاربتها وانفتاحية في توجهاتها.
هناك أيضاً التوق إلى عزل إسرائيل وسحب الذرائع والأوراق التي يمكنها استخدامها من تجييش صنّاع القرار في واشنطن والعواصم الغربية ضد إيران، وتكبيل يدها (سياسياً أو من حيث التوقيت العسكري) لثنيها عن أي مغامرة يمكن أن تكون تخطط لها. وفي هذا الإطار، هناك من الخبثاء من يتحدث عن مؤامرة إيرانية لتثبيت أوباما في موقعه وتعزيز شعبيته، بعد فشله في معظم الملفات الخارجية، وخاصة في ما يتعلق بعملية السلام حيث كانت خسارته المدوية في المعركة الاستيطانية أمام بنيامين نتنياهو.
ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن ما جرى ليس من التطورات التي يمكن المرور عليها مرور الكرام. انعكاساتها الإقليمية لا بد من أن تكون جمّة، وخاصة على مشايخ الخليج الذين لا شك في أن مستوى القلق لديهم قد ارتفع، وعلى «الإخوة الأعداء» في العالم العربي (من المثير معرفة تأثيراتها على القمة السعودية ـــــ السورية المرتقبة). كما أنها تشير إلى ترتيبات ما على مستوى العلاقات الأميركية ـــــ الروسية لم تُعرف أبعادها بعد.
هذا مبدئياً طبعاً. أما فعلياً فبرسم الأسابيع والأشهر المقبلة.
ملاحظة: هناك من لا يهمّه من كل ذلك سوى معرفة إن كان تأليف الحكومة العتيدة قد أصبح وشيكاً أو لا.