لا تفارق الهموم منطقتي باب التبانة وجبل محسن، ويكاد يخيل لمن يزورهما، أن البؤس والتوتر الأمني وجدا ليكونا رفيقين دائمين لأيام أهلهما الطيبين، وأنهما استطابا العيش بين الأزقة المهملة والأبنية التي لم ينفع تجميل، أجري أخيراً في التبانة، في إخفاء ندوب أصابتها على مدى 4 عقود. اليوم يجد تلامذة التبانة وجبل محسن أنفسهم على عتبة عام دراسي تعترضه هزات أمنية
طرابلس ـ عبد الكافي الصمد
مع أن المنطقة عاشت أيام هدوء أمني لافت خلال شهر رمضان، إلا أنه ما كاد عيد الفطر يطل على التبانة وجبل محسن، حتى «تعكرت» أجواؤهما، وعاد الخوف ليربض فوق صدور أبنائهما، قبل أن يستفيقوا على أن هموماً أخرى تنتظرهم بعد أيام، أبرزها استحقاق العام الدراسي، وما يستلزمه من تأمين رسوم التسجيل والكتب والقرطاسية وغيرها.
«عندي سبعة أولاد أرسلهم جميعاً إلى مدرسة التبانة الرسمية»، يقول ماهر كنجو شارحاً وضعه، ومشيراً إلى أنه «لا نعرف بعد إذا كنا سندفع رسوم التسجيل أم لا، (أعلن السفير السعودي تخصيص ما بقي من الهبة السعودية التي أعطيت للبنان منذ 3 سنوات لدفع رسوم تسجيل 230 ألف طالب في المرحلة الأساسية) مع أن أغلبية الأهالي لم يسجلوا أبناءهم، بانتظار معرفة ما إذا كانوا سيعفون من دفع الرسوم كما حصل سابقاً، حتى أن البعض راجع بعض السياسيين ونواب المناطق وغيرهم لمساعدته».
«الناس أعصابها محروقة ووضعها صعب لأنه ليس هناك حتى الآن أي طرف عرض تقديم المساعدة، الكل أغلق الأبواب»، يوضح كنجو قبل أن يضيف: «أغلبية الشباب هنا بلا شغلة أو عملة، وإذا كان يصلني من أخي الذي يعمل في ألمانيا مبلغ 200 دولار شهرياً، أسند بهما وضعي لأن الكحل أحسن من العمى، فإن بعض الناس بدأوا النوم على أبواب النواب والسياسيين طلباً للعون».
لكن الأمر لا يقتصر على هذا الحد، ففي التبانة التي تعد أكبر منطقة سكانية في طرابلس، ليس فيها سوى مدرستين رسميتين، مدرسة التبانة الرسمية ومدرسة لقمان، والأخيرة التي تقع قرب خط التماس مع جبل محسن «يفضل أهالي المنطقة عدم إرسال أبنائهم إليها والاستعاضة عنها بالأولى»، حسب قول كنجو، وهو أمر يؤكده أحمد مرعي الذي يشير إلى أن «اكتظاظ مدرسة التبانة (دون مدرسة لقمان) دفع الأهالي إلى إرسال أبنائهم إلى مدارس رسمية أخرى في منطقتي الزاهرية أو التل، ولأنه لا قدرة للأهل على إرسال أبنائهم إلى تلك المدارس في باصات فإنهم يذهبون مشياً، فتنتشر ظاهرة التسرب المدرسي بينهم، وهي ظاهرة تعتبر الأعلى في طرابلس والشمال».
ولأن «الأرقام تعطي صورة واقعية عن حجم المعاناة»، على حد قول مرعي، يوضح أن «أكثر من 95% من طلاب التبانة مسجلون في مدارس رسمية؛ فالناس هنا يحملون همّ شراء الدفتر و«الشنطة»، فكيف بهمّ تحمل أقساط المدارس الخاصة؟».
في المدرستين الرسميتين في التبانة لا تزال خانة تسجيل الطلاب فارغة، لأن «الناس تنتظر معرفة مصير دفع الرسوم، ولأنها طالعة بعد رمضان والعيد طفرانة»، على حد قول إمام مسجد حربا الشيخ مازن المحمد، الذي يلفت إلى أن «تأمين رسوم التسجيل والكتب والقرطاسية مشكلة كبيرة تؤرق الأهالي، لكن الضجة لم تظهر بعد، ويتوقع لها أن تعلو قريباً».
هذا الهم المدرسي لأهالي التبانة لا يغيب عن بال رئيس المجلس الاستشاري لمجالس الأهل في المدارس الرسمية في الشمال عبد الحميد عطية، فيوضح أن «لا إعفاء من دفع رسوم صندوق الأهل، أما رسوم التسجيل فلم يتضح مصيرها بعد»، كاشفاً أن وزيرة التربية بهية الحريري «أوضحت في لقائنا الأخير معها، أنه بقدر ما تصلنا هبات ستكون هناك إعفاءات».
وإذ أكد عطية أن العام الدراسي سينطلق في موعده في 12 تشرين الأول المقبل، وأن الخوف من انتشار وباء أنفلونزا الخنازير «لن يؤجله، لأن كل الاحتياطات اللازمة اتُّخذت»، فإنه يؤكد أن الاهتمام بالمناطق الفقيرة والشعبية سيكون أكبر، كالقبة والتبانة، حيث لا تتوافر في الأخيرة مدارس وصفوف ملائمة؛ فأبنيتها قديمة، وصفوفها مكتظة بالطلاب، إذ يبلغ عدد الطلاب في كل صف بين 30 و35 طالباً، ما يجعلنا نطالب باستحداث مدارس جديدة في المنطقة، لكن بلا أي تجاوب حتى الآن».
وإلى جانب الهم المدرسي بقي الهم الأمني مهيمناً في التبانة، وهو أمر يشير إليه مرعي من خلال ما تتناقله ألسن المواطنين في التبانة، من أنه «إذا لم تتألّف الحكومة خلال أيام فسينفجر الوضع الأمني، وستكون التبانة كالعادة مسرحاً لهذا الانفجار»، معتبراً أن «كل طرف سياسي له مصلحة في انفجار الوضع، وهم يدعمون مجموعات مسلحة حسب ما يشاع»، ما دفعه للتساؤل: «بدل أن يدفعوا مالاً ثمناً للسلاح، لماذا لا يدفعون ثمن الكتب والقرطاسية ورسوم التسجيل؟».
هذا الجانب الأمني يتناوله الشيخ المحمد من زاوية أخرى، فيوضح أن «الهم الأمني في التبانة مرتبط بالوضع الاقتصادي، ويؤثر عليه، فمن المعروف أن التبانة منطقة يعتاش أهلها من عملهم في مهن وحرف صناعية، مثل تصليح السيارات وغيرها، فإذا ألقيت قنبلة، وهذا أمر تعودنا عليه، أو حدث إشكال، تضخمه وسائل الإعلام، ما يدفع من يريدون المجيء للمنطقة إلى الامتناع عن ذلك، فتتوقف أشغال الناس».
تردي الأوضاع المعيشية دفع أهالي التبانة إلى طرق أبواب بعض النواب والمسؤولين مجدداً، لكنهم عادوا خائبين بعدما توقفوا إثر الانتخابات عن تقديم أي شيء، وهو ما اعتبره الشيخ المحمد «أمراً مهيناً»، مشيراً إلى أن بعض المواطنين «لقوا معاملة سيئة لدى مراجعة أحد السياسيين بخدمة معينة».
في المقلب الآخر، لا يقل وضع أهالي منطقة جبل محسن صعوبة. عشرات الشبان يتسكعون في المقاهي والشوارع بعدما فضلوا عدم «النزول إلى تحت (أي طرابلس) لمتابعة أعمالهم بعد تعرضهم لمضايقات، مع أن أغلبهم يعمل في مهن بسيطة كالتنظيفات»، يقول أحدهم مفضلاً عدم ذكر اسمه.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فـ«أكثر من 40% من طلاب الجبل انتقلوا إلى مدارس رسمية في زغرتا، لأنها أكثر أماناً مع أنها تكلف الأهالي نفقات نقليات إضافية، بعدما شعر هؤلاء أن متابعة أبنائهم الدراسة في مدارس طرابلس لا يطمئن»، على حد قول مختار التبانة ــــ جبل محسن عبد اللطيف صالح.


بلا أنفلونزا بلا بلوط

أمام الهم الأمني، تراجع الخوف من انتشار أنفلونزا الخنازير لدى الأهالي إلى مرتبة متأخرة «ربما بسبب خلفية إيمانية»، يقول الشيخ المحمد إمام مسجد حربا في التبانة، أو لأن «عندنا مناعة تجاه هذا المرض»، يعلق ضاحكاً، وهو أمر يشاركه أحمد مرعي السخرية منه قائلاً: «قال أنفلونزا قال! بلا أنفلونزا بلا بلوط»