سلام الكواكبي *موقف حائر يجد نفسه فيه المتتبع المتيقظ لمسألة انتخاب المدير العام للمنظمة الأممية للثقافة وللعلوم، الأونيسكو، وخصوصاً مع زحمة التعليقات وردود الفعل من كل حدب وصوب، والحديث المستمر عن المؤامرة الكبرى التي أطاحت مرشح الحكومات العربية. أضحى من الواضح، للمؤيّدين كما للمعارضين لهذا الترشيح، أن العامل الإسرائيلي أدى دوراً فعالاً وأساسياً، بل حاسماً، في خسارة فاروق حسني الانتخابات. وحتى نكون أكثر تحديداً، رغم الخشية من الوقوع في الخلط غير المحبّذ دائماً، وفي معزل عن مكانة الفائزة البلغارية ونوعيتها وحسن سيرتها، فالتيار اليميني اليهودي، من خلال وسائله المتعددة إعلامياً وسياسياً، استطاع إسقاط حسني في هذه الانتخابات. فالسيدة تستحق ولا ريب هذا المنصب، على الأقل تناسباً مع ممارستها للسياسة، ومعرفتها بأسس العمل الديموقراطي، وهي التي رافقت انتقال السلطة من الشمولية إلى التعددية في بلادها، وأسهمت في المرحلتين في بناء تيار سياسي إصلاحي سلمي ما أحوجنا إليه في عالمنا العربي. الموضوع إذاً ليس من هو الأفضل، بل أن مرشح (نا) العربي فشل في بلوغ هذا المنصب، وفشلت من ورائه إرادات سياسية لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تكون مقتنعة، ولو شكلياً، بمفاهيم الثقافة المنفتحة والتعددية والمتسامحة. بالتأكيد، كان كثير من المرشحين أفضل من مرشح (نا) لكن، هل التنافس القيمي والاستناد إلى المعايير الثقافية والديموقراطية هما اللذان أودىا به إلى الخسارة؟ هل اجتمع المندوبون وتناولوا النصوص الفكرية الفذّة التي كتبها المرشحون، وناقشوها واستندوا إليها في التصويت؟ هل قام أولئك المنتدبون على ثقافة العالم بمراجعة سجل حقوق الإنسان في الدول التي رشّحت مسؤوليها السابقين، لترى أياً منها احترمت الحريات والرأي الآخر والتعددية والثقافة بمعناها العضوي لا الكمالي والسياحي؟ بالتأكيد، لم يتوافر للسادة وللسيدات، ممثّلي الدول، الوقت ولا الرغبة للقيام بمثل هذا البحث والتمحيص. لقد ازدحمت أروقة المبنى الكبير بالمماحكات والتدبيرات والوعود والتهديدات والدبلوماسية ببعدها البازاري، وفي أحلك صورها حتى لا نقول أقذرها. وحتى هذا النشاط لم يكن فعلاً مؤثراً وحاسماً، بل إن تكاتف الدور الثقافوي اليهودي الناشط في الأوساط الإعلامية الفرنسية على الأقل، مع رغبة أميركية مواربة في عدم فوز من لا تريده إسرائيل التي أوكلت رفضها ـــــ بعد أن وعد نتنياهو الرئيس مبارك بالعكس ـــــ إلى سعاة الخير الأوروبيين، وما أكثرهم لدى دوائر التأثير، وخاصة في المجالات الثقافية.
مراجعة الانحدار الذي وصلت إليه السياسة الثقافيّة العربيّة وما تنتجه من رموز هي وظيفة المثقف العربي
إضافة إلى الدور الأميركي الموارب، برز دور فرنسي غير واضح المعالم ومتأثر بصديق وزير الخارجية برنار كوشنير وملهمه، متفلسف التلفزيونات، برنار هنري ليفي. فدبجت المقالات والبيانات التي تندد بفاروق حسني لأنه تحدث عن حرق الكتب الإسرائيلية (يا له من تصريح يليق بوزير للثقافة!) إن هي وجدت في مكتبات وزارته. كذلك هاجمته هذه النوعية من الأدبيات بأنه شارك ـــــ وهذه معلومة استخبارية طازجة استنبطتها مخيّلات أو وثائق الناشطين المؤثرين اليهود ـــــ في عملية تهريب المتهمين في إحدى العمليات الإرهابية في إيطاليا. فقط؟ نعم، هذه هي مبررات الهجوم والتنديد، ولم نجد أيّ ذكر لدوره كوزير للثقافة لمدة ناهزت عقدين، فيما الثقافة عانت منه بما يكفي خلال ذلك الزمن، وصار المثقفون المصريون يبتعدون عن هذه المؤسسة التي كانت، حتى في أوج المرحلة الموسومة باللاديموقراطية إبان الحقبة الناصرية، ملجأً للفكر وللإبداع.
لكن، هل يمكن الإشارة فحسب إلى امتناع «الآخر الغربي» عن التطرق إلى ما يمثله هذا المرشح من الناحية الفكرية، بعيداً عن اللجوء إلى العزف على وتر عقدة الذنب الأوروبية المستمرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ودور هذه الحضارة في إبادة عدد (لن نختلف عليه) من أتباع الدين اليهودي أو ترحيلهم إلى معسكرات الاعتقال النازية، رضي محرّفو التاريخ الشعبويون أم لم يرضوا؟ لماذا لم تتوقف الأقلام العربية «الحرة» أمام استقالة غالبية المثقفين العرب عن «إدانة» هذا الترشيح ورمزيته؟ لماذا لم نقرأ، سوى لقلة قليلة اعتراها الخجل والتحسّب، مواقف واضحة من بُعدَي المسألة، الترشيح والخسارة؟ كم كان مخجلاً أن تتحفنا الشاشات العربية بصور كتاب وشعراء يمارسون المديح للمرشح كأنه أبو العلاء المعرّي؟ لماذا لم يتركوا، في أحسن الأحوال، الأمر لأصحابه من ساسة وطبّاخ السياسة وصنّاع المناصب، بعيداً عن إعطاء الأمر صدقية ثقافية مرفوضة؟
كم هو مشين للثقافة العربية التي تعيش عصر انحطاط جزئي أن تستكمل صورتها وتنضم إلى جوقة الملحنين والمطربين لترشيحات سياسية أقل ما يقال فيها إنها تقول للعالم: هذه بضاعتنا، وهذا هو مستوى ثقافتنا، وهذا أفضل الموجود؟
من الجيّد بالنسبة إلى الثقافة العربية والعالمية أن فاروق حسني لم ينجح. ومن دون أن نغيّب السبب الحقيقي لخسارته، إلا أن مراجعة الانحدار الذي وصلت إليه السياسة الثقافية العربية، وما تنتجه من رموز، هي وظيفة المثقف العربي، قبل أن ينبري إلى إلقاء اللوم، وإن كان مبرراً، على المؤامرات «اليهودية والصهيونية والإسرائيلية». لو كان العرب الرسميّون قد قرروا فعلاً التصدّي لهذا المنصب، على أهميته أو سخافته، (فليس هنا مجال البحث في المعايير)، وأرادوا إيصال عربي بالثقافة أو الانتماء إلى موقع مرموق بالمعايير الدولية، لكان مطلوباً منهم ممارسة القليل من العصف الذهني للبحث عن رمز ثقافي مقنع نسبياً، ولو كانت النتيجة في كل الأحوال الخسارة.
أما اليوم، فهذه هي بضاعتكم رُدّت إليكم.
* باحث سوري