حسام كنفاني


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

طاولات خيم مهرجان ميونخ للبيرة جامعة. مجموعات متنوّعة تتجاور على مقعد واحد وتبدأ بالتعارف. هذا من كندا وذاك من أوستراليا وآخر من ألمانيا، وحين يأتي الدور عليك تعلن أنك «من لبنان». إعلان استقبله الحاضرون ببشاشة، إلا واحداً كان يجلس في المكان المجاور لي مباشرة. قال بحماسة «لبنان»، وسلّم عليّ بحرارة قبل أن يقول «أنا من تل أبيب». عبارة ترافقت مع نظرة مكر وابتسامة صفراء لا يمكن محوها من الذهن بسهولة.
كان وقع الكلمة صادماً ومربكاً، ولا سيما لشخص لم يختبر اللقاءات التطبيعية العربية ـــــ الإسرائيلية الكثيرة، ولا فكرة التعايش مع العدو في مكان واحد. ردة الفعل الأولى كانت الإنهاء السريع للمصافحة والانكباب على حديث جانبي لمنع أي فرصة حوار جديد مع هذا الشخص، وما يمثله، والذي فُرض عليّ وجوده إلى جانبي، تماماً مثل «دولته» المفروضة على المنطقة، مع فارق أن في المنطقة من بات يألف هذا الوجود ويتمسّك به.
الحديث الجانبي لا يطرد الشعور الغاضب والمقزز الذي يستوطنك طوال الجلسة، ولا سيما أن الشخص يبقى يرمقك بنظرات استفزازية وكأنه يعرف ما يدور في ذهنك. كأنه يعرف أن مئات الصور والأفكار تخطر على بالك في مثل هذه اللحظات، تستحضر كل ما قرأت وعرفت عن ممارسات وانتهاكات قوات الاحتلال في لبنان وفلسطين وسوريا ومصر منذ قيام الدولة العبرية إلى اليوم.
مشاعر تدفعك مباشرة إلى التفكير بجلسات المفاوضات وصور التحيات المتبادلة لكثير من المسؤولين العرب والفلسطينيين مع نظرائهم الإسرائيليين. وتتساءل عما إن كانت المشاعر نفسها قد اختلجت صدور هؤلاء المسؤولين خلال اللقاءات رغم مشاهد الابتسامات والضحكات، أم هم كبتوها «كرمى لعيون السلام».
ثم تكتشف عمليّاً، للمرة الأولى ربما، ما هو مفهوم «السلام» الإسرائيلي، الذي يبشّر به بنيامين نتنياهو منذ خطاب بار إيلان. سلام «التطبيع مقابل لا شيء» والتسليم بالأمر الواقع للاحتلال والدخول في مفاوضات بلا شروط، ربما تثمر انسحابات بسيطة لا تغيّر الطبيعة الاحتلالية في شيء. سلام يبدو أن من كان جالساً إلى جانبي يطبقه بحذافيره، أي إنه «سلام باليد» فقط لا غير. لا معنى إسرائيلياً غير ذلك، كل ما فهموه من السلام هو المصافحات والتقاط الصور مع المسؤولين الفلسطينيين والمصريين والأردنيين والتونسيين والمغاربة والموريتانيين وبعض الخليجيين، وهم يسعون الآن إلى توسيع مروحة الصور ومدّ نطاقها الجغرافي لتكتمل مجموعة «السلام» الإسرائيلية.
إنه السلام الذي من أجله ضحّى محمود عبّاس بدماء آلاف الفلسطينيين في قطاع غزة وأطاح تقرير المحقّق الدولي ريتشارد غولدستون. وضرب عرض الحائط بمركزه «كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني»، وفتح الباب أمام مزيد من الجرائم الإسرائيلية بحق غزّة، ما دام تصرّف أهل القضية بهذا الشكل، فلا عتب على الآخرين.
عباس أكثر الحريصين على مثل هذا السلام، وأكثر المدافعين عنه. هو خير من طبّق عملية «السلام من أجل السلام»، بغضّ النظر عن أيّ مفهوم كان لهذا الاسم. لا يتراجع عنه ويستميت لإظهار الحرص عليه حتى لو استبيحت دماء كل الفلسطينيين. الأمر ليس مهماً، المهم بالنسبة إليه هو الحفاظ على وجود هذا «الشريك الاستراتيجي».
لا يخجل المسؤولون الفلسطينيون من الإقرار بفعلتهم بحجة «حماية مسيرة السلام». لكنهم لا يوضحون عن أي سلام يتحدثون. ويتكلمون كما لو كانت جولات المفاوضات قد قطعت أشواطاً من التقدم، وباتت قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى «نهايتها السعيدة»، رغم عدم وجود مسيرة سلام قائمة حتى الآن، وإذا قامت فهي لن تحيد عن الرغبات التي أعلنها نتنياهو ويطبقها مواطنوه.
لهذا «السلام» يوفد الرئيس الأميركي باراك أوباما مبعوثه في جولات مكوكية إلى المنطقة. ورغم أنه يعود خالي الوفاض وتصطدم مهمته دائماً بالرفض الإسرائيلي، إلا أن «رئيس التغيير» ينبري في اللحظات الحرجة للدفاع عن الجرائم الإسرائيلية والضغط على الفلسطينيين، وربما استخدام الفيتو، إذا قدّر للتقرير أن يجد طريقه إلى مجلس الأمن في آذار المقبل.
بعد تجربة الاحتكاك المباشر مع إسرائيلي، بات معنى مسمّى السلام أكثر وضوحاً في الذهن. سلام يبدأ بـ«أنا من تل أبيب» وينتهي عنده، لكنه يحقّق الغاية الإسرائيلية المنشودة، مع فارق أن الشعور بالغضب والاشمئزاز يبدو منعدماً لدى مسؤولي السلطة، لتحلّ محله الألفة مع «الجار» والابتسامات أمام عدسات المصوّرين وخلف الأبواب المغلقة.