محمد محسنفي المدينة، حيث لا أرض تزرع، ولا نبع يروي المزروعات، تبدو المونة البلدية هدفاً صعب المنال. لكن صعوبة الحصول على أكياس المونة تتفاوت بين سكان البناية الواحدة، في أي شارعٍ من شوارع المدن المتخمة بالإسمنت. إذ لا يتكلّف سكان المدن ممن تعود أصولهم إلى القرى، إلا عناء الاتصال و“التوصية” على أنواع المونة المطلوبة من قراهم، أو في أصعب الأحوال، إحضارها بأنفسهم خلال العودة من نزهة قروية.
لكن، ما العمل بالنسبة إلى سكان المدن، الذين لا قرى تغذّيهم بالمونة البلدية؟ كيف يوفّرون مونتهم؟ السؤال بديهي، غير أن الإجابة عنه ليست كذلك. الحديث مع أهل المدن عن مونتهم مشوّق جداً. طبعاً، ليس المقصود هنا أولئك الذي يوفّرون اكتفاءهم الغذائي من المحالّ والسوبر ماركت التي تمتلئ رفوفها بـ«أشباه المونة» من موادّ جاهزة ومعلّّبة. تدغدغ رائحة المونة البلدية و«سمعتها» الطيبة، بطون كثيرين من سكّان المدن الأصليين. ولأجل ذلك، يجهد كثيرون منهم لابتداع وسائل يكون من نتائجها، العسل والصلصة والبرغل وما إلى هنالك من أصناف المونة البلدية التي يحتاج تأمينها إلى علاقات اجتماعية توصل الزبون إلى صنّاع المونة في القرى. وعلى قاعدة «بلدنا صغير وكلنا منعرف بعض» ينحو الكثيرون نحو جيرانهم من الأصول القروية، سعياً إلى توفير مونة عامهم. في بيروت مثلاً، «تستورد» عائلات كثيرة زيت الزيتون من عكّار والجنوب أو حتى من تركيا، عبر مبدأ “التوصية”، انطلاقاً من العلاقة الوثيقة مع الجار أو الصديق الذي يرتاد قريته، فيما يكتفي جزء من سكان العاصمة بزيت المحالّ والتعاونيات. ينسحب مبدأ “التوصية” على جميع أصناف المونة، لكن المجهود يتضاعف، حين يكون مصدر كل صنف منطقة بعيدة عن الأخرى. كيف لا، وسكان المدن يحتاجون إلى توفير البرغل من الجنوب، والكشك من البقاع، والمربّيات من مناطق قريبة من بساتين جبيل والشمال. في هذه الحالة، يندر أن يتمكن سكان المدن الأصليون من توفير جميع هذه الأصناف. يكتفون ببعضٍ منها، وبقدر ما تتحمّل ميزانياتهم المالية.
إضافةً إلى ذلك، يعتمد بعض سكان المدن مبدأ «أولاً بأوّل». فشراء المونة بالنسبة إليهم، لا يجري «ضربةً» واحدة، بل بحسب المقدار والحاجة. وهنا تؤدّي العلاقات العامة والتوصية دورهما. فيصبح موسم المونة ثلاثة مواسم أو أربعة. في الآونة الأخيرة، يجدر الالتفات إلى «ظاهرة» المعارض الموسمية للصناعات الغذائية القروية. فعلى ندرتها، بدأت هذه المعارض تمثّل متنفّساً حيوياً، يوصل مونة القرى إلى مطابخ سكان المدن بفعاليةٍ واضحة، تفرض تعميم التجربة وإنشاء أسواقٍ قروية دائمة في ربوع المدينة وبضيافة سكانها.