من ميكانيكيّ سيارات، إلى مطرب، إلى عوّاد. بين هذه المهن الثلاث، أمضى ألبير منصور خمسين عاماً من حياته، قبل أن يستقرّ منذ خمس سنواتٍ فقط على «العوّاد». وهي المهنة التي عشقها مصادفةً، ودفعته إلى التفكير في سؤالٍ يشغل باله دائماً: «ماذا سيحلّ بالأعواد من بعدي؟»
راجانا حمية
كان النور لا يزال خافتاً في الأفق. بالكاد تبين خيوطه بين الأبنية العملاقة، حين حمل ألبير منصور عدّته، مسرعاً الخطى نحو مشغله لصناعة الأعواد في وطى المصيطبة. كان الجوّ بارداً في حينها، والسماء تدلف ماءها بدون رغبة في التوقّف، وهو يعدو، كأنّه يسابق حبّات المطر. في تلك اللحظة، لم يكن الرجل يفكر في البرد القارس الذي كاد يعطّل قدميه، فكل ما أراده هو الوصول لاستكمال “طاسة” العود.
لم يكد يبلغ الزاروب المؤدّي إلى مشغله، حتى أتاه صوت جاره، المدثر بـ“الكاب” الطويل أمام دكانه، كأنه يلومه “ما فيا شي هالدني يا عمّو ما تركض”. ردّ على اللوم بابتسامة حائرة أغرقته في التفكير في السبب الذي دفع الجار إلى قول هذا، فهو لم يلهث يوماً وراء المال “وخصوصاً أنني لم أبع عوداً إلّا في ما ندر”.
اليوم، بعد 10 سنوات على كلام الجار، يجد منصور نفسه من دون قصد يسابق شروق الشمس.. لكن ليس نكايةً بالجار، بل لأنه وجد في المشغل “خشبة الخلاص” من الأيام المثقلة بالألمين: الجسدي والنفسي. من يطرق باب المشغل، فسيغوص هو الآخر في
في مصر قرر ألا يغني «لأن شفت المطرب انبح صوتو والناس عم يعبطو البنات»
عالم جديد يشبه ما يشعر به منصور حين يدخل صومعته. كل شيء يوحي بالدفء والقِدم: أعواد معلّقة على الجدران. أشرطة كاسيت لمطربين لم تعد أصواتهم مسموعة. صور لعازفين نعرفهم أو أننا نتعرّف إليهم للتوّ على الجدران. بين تلك الزحمة المحببة، ينحني الرجل فوق عوده. يحفّه، وهو يستمع إلى صديقه الجالس قبالته، من دون أن ينبث ببنت شفة. يتوقّف الصديق عن الكلام عندما يسمع جلبة الداخلين، فيما هو عاكف على حفّ عوده. لم يتنبه للسكون حوله إلّا بعدما فرغ من عمله. يقف مبتسماً. تمرّ بضع دقائق قبل أن يأتينا صوته، قائلاً “كلّ اللي بقولو أنا عايش، شغلي ما عم يكسر خاطري”. هو، في العادة لا يكثر من الكلام، ولكن عشقه لمهنته، دفعه إلى مسايرة الزائرين، ولو بشيء من الحذر. يبدأ سرد حياته من آخرها، من الفترة التي صنع فيها أول عود في 17 أيار 1987. شعر في حينها بأنه إنجاز رائع لميكانيكي سيارات لم يرَ يوماً أبعد من صندوق سيارة. لكنه، اليوم لم يعد فخوراً به، إلّا أنه كان فاتحة الطريق أمام الصناعة التي بات فيها من القليلين. يحتاج منصور إلى الكثير من الوقت كي يقول ما لديه. خجله يثنيه عن سرد حياته الحافلة بالتناقضات. فمن كان سيعرف أن الميكانيكي كان مطرباً غنّى في الإذاعة اللبنانية ومصر والكويت؟
يتذكر منصور كيف كان يحمله والده على كتفيه في الأعراس ويقول له “يللا بابا غنّيلنا”. كبر الطفل. لم ينسَ الغناء، لكنه اختار التخصّص في الميكانيك لأنها “عيّيشة”. في ذلك الوقت، كان جاره في السكن الفنّان مارسيل خليفة، فكان كلّما سمعه يدندن الموسيقى تحت السيارة التي يصلحها، قال له “شو بدك بالشحم، إنت شغلتك عوّاد”. كان يبتسم له فقط، ولكن مع الإصرار، تجرّأ على الدندنة علناً. فغنّى في فرقة الميادين لفترة قصيرة وفي السهرات، فولّدت صحبته مع خليفة شريطي كاسيت. من الكاسيتين، لا يتذكر سوى أغنية “عودوا أنّى كنتم”، فعندما هربت عائلته من وادي شحرور أثناء الحرب، تركت هناك كل شيء: الأغراض، الصور والأشرطة التي كان يحتفظ بها. ذات يوم، تعطّل العود. فخيّل له في محل دوزنة الأعواد، أنه يمكنه صنع آخر. نجح في ما تخيّله، فطلب من محامي البناية حيث يسكن السماح له ببناء غرفة في الحديقة. هناك، أسّس مشغله الأول وصنع عوده الأول.
العود بات أعواداً. لم يصنع منصور عوداً كالآخر، كان دائماً في حالة تجربة، إذ لا يمكن أن “يكون العود الذي أصنعه يشبه الآخر الذي يمكن أن أصنعه”. بعد سنوات التجربة، يصنع اليوم منصور “أصواتاً”. يتخيّلها في رأسه، ثم ينفّذها، لذلك لم يرمِ عوداً يوماً. قد لا يكمله، لأنه يدوزن عمله حسب مزاجه. لا يجرؤ منصور على بيع أعواده. يفضّل رؤيتها معلّقة أمامه. وإن فكر في بيعها، فلأصحابه والمقرّبين منه. ويفرح، لأن أعواده لم ترحل بعيداً. كل الذين اشتروا منه يعرفهم. مارسيل خليفة. سحر طه. سامي حواط. عمر بشير. نصير شمّة. شربل روحانا...
يكتفي منصور بهذا القدر من الحديث. ينهي حديثه بأغنية “سيرة الحب”. لكن، ساعة الرحيل، يتذكّر فجأةً مسيرته الغنائية، فيبادر قائلاً “بدك تعرفي كيف غنيت؟”.
كان عمره 17 عاما عندما غنى عبد الوهاب في الإذاعة اللبنانية
تُعقد الجلسة مجدداً، والمحور هذه المرة: المطرب ألبير منصور. بدأ منصور الغناء في الإذاعة اللبنانية مصادفةً. كان يصلح إحدى السيارات، وهو يغني كعادته. سأله الزبون “بتغني؟”. أجاب مرتبكاً “فيك تقول”. فقال له “لازم عرفك على عيسى النحاس (مسرحي)”. لحظة اللقاء، طلب النحاس من منصور الغناء. فوجئ بصوته، فارتأى جمعه بالملحن مارون سالم، الذي كان لديه ركن للموسيقى في الإذاعة اللبنانية. كان يبلغ من العمر 17 عاماً عندما غنّى “عبد الوهاب” باسم وحيد سالم. يفرح منصور بتلك الفترة من عام 1959، فقد كان وطروب، الشابين اللذين غنّيا معاً في الإذاعة.
ترك منصور الإذاعة مرغماً، بعدما حصل على عرض عمل في مهنته بالكويت. رحل. وهناك، تعرّف إلى “مطرب الكويت الأول” عوض الدوخي في الكاراج. ضرب له الدوخي موعداً مع مدير الإذاعة. غنّى أمامه. فاشترط عليه الوظيفة، إلا أنه لم يستطع الالتزام.
شاءت المصادفات أن يرافق منصور صديقه إلى مصر. فتعرّف إلى مدير الإذاعة عندما كان يعزف في أحد المسارح. كما في كل مرة، طلب منه الغناء. فاز بالعمل، لكن يومها قرر ألّا يغني “لأن شفت كيف بح صوته والناس عم يعبطو البنات”. خاب أمله في الفن. هنا، يختلف كثيراً عن ركن “القديس” في لبنان. حزم حقائب العودة. في اليوم الذي كان سيسافر فيه، تلقّى اتصالاً من صديقه، قال له “حزار على مين بدي عرفك؟”. فأجابه “مين يعني”، فأتاه الجواب “حسين السيد (مؤلف عبد الوهاب الخاص)”. صُعق منصور لسماع الاسم، فأرجأ سفره. في اليوم التالي، قابله السيد، قائلاً “لمين هتغني؟”. أجابه منصور “لعبد الوهاب”. يتذكر منصور أن السيد عندما كان يغني، لم ينظر إليه، فخاف. وحالما انتهى بادره بالقول “عندك مسجّل”. وقبل أن يجيب، قال له “سجّلي الأغنيات اللي غنتها وتعالى علشان أدّيك أغنية”. لم يتمالك نفسه حينها. طار من الفرح.. ونحو مركز البريد ليراسل خالته في الكويت طالباً المال. بضعة أيام، جاء الرد “عد إلى هنا”.
1973. ترك منصور مصر وعاد إلى الكويت.. عاد ميكانيكياً
1979. ترك الكويت وعاد إلى لبنان، ليستقر مع زوجته، محتفظاً في ذاكرته من كل هذه السيرة بأسماء الأصدقاء الذين عرفهم في ترحاله


أسمر يا أسمر

لا يندم ألبير منصور خلال مسيرته الفنيّة سوى على شيءٍ واحد كان يمكن أن يغيّر حياته. ففي عام 1959، لحّن له مارون سالم أول أغنية له، ولكن بعد الانتهاء منها، وجد أن كلماتها “خرج تغنّيها بنت”، فأعطاها إلى طروب. والأغنية هي “أسمر ما أحلى الشامة على خدك. أسمر أنا قلبي وروحي عندك. أسمر سواد عيونك ساحرني. أسمر لا قبلك ولا بعدك”