اعتصم 139 ناجحاً في امتحانات مجلس الخدمة المدنية لملء الشواغر في بلدية بيروت، أول من أمس، احتجاجاً على عدم توظيفهم، رغم مرور ثمانية أشهر على نجاحهم. اعتصام يأتي بعد لقاءات مع المعنيّين فشلت في إيجاد حلّ لقضيتهم
محمد محسن
في بلدية العاصمة 4000 وظيفة، لكنها تعاني فراغاً نسبته 90% على مستوى الموظّفين. يتجلّى ذلك في المكاتب الفارغة للمبنى الضخم الجميل، الذي تحتلّه البلدية في وسط العاصمة. مكاتب كان يمكن ملؤها منذ ثمانية أشهر، مع وجود ناجحين في امتحانات مجلس الخدمة المدنية لا يفصل بينهم وبين توظيفهم، وتسيير شؤون الناس، إلّا توقيع محaافظ بيروت.
ففي شباط الماضي، فرح 139 شخصاً بنجاحهم في مباريات مجلس الخدمة لملء الشواغر في وظائف الفئتين الثانية والثالثة من ملاك التوظيف في بلدية بيروت. وإذا كانت فرحة بعضهم كبيرة لأنه وجد عملاً يخرجه من بطالته، فهي مشكلة لآخرين استقالوا من وظائفهم تمهيداً لتسلّم عملهم الجديد.
ثمانية أشهرٍ أمضاها الناجحون على أبواب الزعماء والمسؤولين السياسيين والمحافظ، خلافاً للمكان الذي يفترض أن يمضوا وقتهم فيه: البلدية. خلال هذه الفترة، تظاهروا، طالبوا بحقهم الطبيعي كناجحين في المباريات، لكن النتيجة كانت مزيداً من ساعات انتظار الفرج.
عدد من الناجحين لا يتردّد في تحميل محافظ بيروت ناصيف قالوش مسؤولية بقاء البلدية شاغرة، فهو يملك وحده حق توقيع قرار توظيف الناجحين، من دون أن يلزمه القانون بمدّةٍ زمنية معيّنة لذلك. ولأنه يمتلك هذه الصلاحيات التنفيذية، مثّل المحافظ الحلقة الأهم في مسلسل زيارات الناجحين، الهادفة إلى معرفة مصيرهم. سبعة لقاءات أجراها الناجحون معه، بدأت في آذار وانتهت في أيلول، حصيلتها كما يقول أحدهم (جميعهم رفضوا الكشف عن الأسماء): “لا شيء. مماطلة ووعود لم تُترجم على أرض الواقع”.
يروي أحد الناجحين: في اللقاء الأوّل، قال لنا المحافظ: “أنتم لستم أولوية بالنسبة إلينا. في البداية نريد تثبيت المهندسين المتعاقدين والحرس البلدي وتعيينهم قبلكم”. يتابع الناجح قائلاً: “في كل مرّة نزور فيها المحافظ، يرفع لنا ملفاً ملوّناً، مرة أسود ومرّة زهرياًّ، ويقول هذا ملف الحرس انتظروا ريثما أنهي موضوعهم”. يقول ناجح آخر: “لا ندري سبب التأجيل في توظيفنا. مسألة الحرس منفصلة عن وضعنا ولا يجوز ربطنا بالحرس، الذين يخصعون لامتحاناتٍ داخلية، لا لامتحانات ضمن مجلس الخدمة المدنية، مثلنا”.
هكذا، ظلّت اللقاءات بين الناجحين والمحافظ تراوح مكانها. وخلال الأشهر الستّة، لم يوفّر الناجحون جهداً في زيارة السياسيين النافذين في محاولة منهم لحلّ مشكلة توظيفهم. وبحسب الناجحين، تذرّع أغلب السياسيين بـ“التوازن الطائفي”، وخصوصاً أن معظم الناجحين هم من لون طائفي واحد، علماً أن لا مادة قانونية توجب توزيعاً طائفياً معيّناً في وظائف الفئتين الثانية والثالثة ضمن ملاك البلدية. وتذرّع جزء آخر من السياسيّين بمسألة “تأليف الحكومة و.. تبديل المحافظ”.
الناجحون يحمّلون قالوش المسؤولية والأخير يرفض التعليق
لم ييأس الناجحون. توجّهوا إلى رئاسة الجمهورية برسالتين. لم يطل الوقت حتى جاء الرد من القصر الجمهوري، أُبلغ الناجحون أن الرئيس ميشال سليمان اطّلع مباشرةً على قضيتهم، وكلّف أحد معاونيه متابعتها، وهذا ما حصل. لكن، بحسب الناجحين، فإن ما تبلّغوه من دوائر الرئاسة هو أن الأمور “قيد المعالجة” فقط، وأن الكلام الذي سمعوه من المحافظ عن ملفاتٍ أخرى، هو نفسه الذي سمعه المسؤول المكلّف من رئاسة الجمهورية. يتوقّف الناجحون عند لقائهم الأخير مع المحافظ. ينقلون عنه الحوار التالي: “بصراحة تامة، ملفّكم خرج من يدي”. فوجئوا، وعندما سألوه عن السبب أجابهم، وفقاً لرواية أحد الناجحين: “قال لنا أنا أكثر شخص مصرّ على تعيينكم، لكن ثمة من يعرقل الموضوع، وعندما سألناه من هو، أجابنا السياسيون الذين زرتموهم. وعن تصوّره للحل قال لنا دعوني ألملم القصة بكتمانٍ تام. ملف الحرس ما زال عالقاً، وأنتظر تعيينكم مع الحرس دفعة واحدة، حتى تكون الصرخة واحدة، أنتم والحرس”. هكذا انتهت لقاءات مجموعة من الناجحين مع المحافظ.
يستغرب أحدهم “تلكّؤ” قالوش عن التوقيع، وربطه ملف الناجحين بملف الحرس طوال ثمانية أشهر، وخصوصاً بعدما أرسل رئيس بلدية بيروت عبد المنعم العريس كتابين خطّيّين إلى المحافظ، تمنّى في الأوّل التوقيع وتسريع توظيف الناجحين، وأكّد في الكتاب الثاني أن الاعتمادات المالية لهؤلاء الموظفين مرصودة ضمن موازنة البلدية.
يتحدّث ناجح آخر عن أعمال غير قانونية تجري داخل البلدية، كإبرام ما يسمّى “عقد الأجارة”. ويجري ذلك عبر التعاقد مع متقاعدين، والاستعانة بهم بدلاً من الموظّفين الناجحين في الامتحانات. وهذا غير قانوني، كما يؤكّد الناجحون، وخصوصاً في ظل غياب أيّ مادة تسمح بعقد الأجارة، بحق أي وظيفة ملحوظة في ملاك الوظائف في بلدية بيروت. كذلك، يؤكّد أحد الناجحين وجود حراسٍ وأجراء يقومون بمهمّات إدارية داخل البلدية “ومن المفترض أن نكون مكانهم. هم لا يحقّ لهم العمل كإداريين بوجود الناجحين في امتحانات مجلس الخدمة”.
بالنسبة إلى الناجحين، الضمانة هي القانون. لكن ما سمعوه ورأوه بأمّ أعينهم من بعض أعضاء البلدية والأحزاب قبل المحافظ، لا يشير إلى سطوة القانون. التوازن الطائفي هو الحكم في أمر التوظيف. هذا ما فهمه الناجحون من بعض أعضاء البلدية. الأحزاب كانت أكثر وضوحاً. حزب الله وتيار المستقبل لا يريدان إزعاج حلفائهما المسيحيّين عبر الضغط لتعيين موظفين من طائفةٍ واحدة. هذا ما شعر به الناجحون، حين تغيّر كلام الأحزاب والتيارات بين ليلة وضحاها.
من جانبه، رفض محافظ بيروت ناصيف قالوش التعليق لـ“الأخبار” على الموضوع رفضاً قاطعاً، رافضاً حتى الاستماع إلى الاتهامات التي ساقها الناجحون ضده “اكتب لا أريد أن أعلّق على هذه المسألة”. مصدر مسؤول في بلدية بيروت، رفض الكشف عن اسمه، أشار إلى أن إبقاء الناجحين من دون تعيين أمر غير مقبول، مؤكداً أنّ الهدف من ذلك هو “الحفاظ على المال العام، وخصوصاً أن ميزانية الموظفين مرصودة وجاهزة، فسرعة توظيفهم ضرورية لأن وضع البلدية أصبح لا يُحتمل”.
يهيمن على وجوه الناجحين شيء من اليأس. فهم مع محاولاتهم لنيل وظائف لا يتجاوز راتب الأفضل بينها مليون ليرة، يخافون من شبح إبعادهم نهائياً، إذا جرت الانتخابات البلدية قبل تعيينهم. كذلك، لا ينكرون توجّساً من تكرار تجربتين، جرى خلالهما إبعاد ناجحين مثلهم في مباريات مجلس الخدمة. الأولى عام 1997 حيث خسر الناجحون في مباراة رؤساء الدوائر وظائفهم، والثانية عام 2005 حيث لم يعيّن الملاحقون الصحيّون في وظائفهم. لكن في المقابل يعزّيهم مشهد الناجحين في مباريات الضمان والمالية والصحة، الذين عُيّنوا من دون قيد طائفي. وبانتظار تعيينهم، يسعى الناجحون إلى لقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري، النائب سعد الحريري، وزير الداخلية والبلديات زياد بارود، نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم.


باكورة التصعيد: اعتصام مفتوح

أول من أمس، اعتصم أكثر من سبعين شخصاً من الناجحين، في وسط بيروت، قرب مبنى جريدة “النهار”، بعدما أبعدتهم القوى الأمنية عن مبنى بلدية بيروت، حيث كان مقرراً أن يتجمّعوا. استمر الاعتصام ساعتين، اتفقوا خلالهما على تصعيد موقفهم، عبر إعلان اعتصام مفتوح إلى حين توظيفهم، وبالفعل توّزعوا أمس على مجموعات ستتناوب على الاعتصام يومياً.
وتضامن ثلاثة أعضاءٍ من مجلس بلدية بيروت مع المعتصمين. لكن هذا التضامن لا يمثّل رأي البلدية مجتمعةً. إذ ينقل بعض الناجحين ما سمعوه من أعضاء في البلدية، مشيرين إلى أن مشكلة توظيفهم ترتبط بالتوازن الطائفي. فقد قال أحد أعضاء البلدية للناجحين “ما تحكوني بالقانون. البلد ماشي عالتوازنات الطائفية”، فيما قال عضو آخر “نحنا عم نتدابح مع المحافظ كرامتكن إنتو والحرس”. المشكلة إذاً كالتالي: المحافظ وجزء من البلدية مع التوازن الطائفي، والناجحون وجزء آخر من البلدية ضدّه. أما أهل الحل والعقد من السياسيين، ففي عالمٍ آخر... حتى قدوم الانتخابات البلدية في العام المقبل.