إيلي شلهوب


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

كأن الزمن قد عاد بشعوب المنطقة قروناً إلى الخلف، إلى أيام كانت تركيا تحتل فيها واجهة الأحداث، إن لم تكن هي الحدث بحد ذاته. لا شك في أنها مبالغة كبرى، تشبيه تركيا ـــــ أردوغان بإمبراطورية السلاطين، إن من حيث دورها أو وظيفتها أو اتساع نفوذها. لكن ما العمل بعبء التاريخ وحكم الجغرافيا؟ عوامل تلاحقنا مذ اكتشفنا تخلفنا وحمّلنا مسؤوليته لـ400 عام من القطع التاريخي فرضه العثمانيون على المنطقة العربية. في المقابل، كان أبناء أتاتورك يبررون تخلفهم عن اللحاق بركب الدول الأوروبية بـ400 عام يدّعون أنهم حملوا خلالها وزر العرب وتخلفهم.
بل إنها مبالغة الربط بين تركيا ـــــ أردوغان وتركيا ـــــ أتاتورك بما تحمله من رموز عسكرية وعلمانية. لقد أدت هذه الأخيرة دور النموذج العلماني (الأوروبي) الصارم في بلد غالبيته الساحقة من المسلمين، فضلاً عن أنه كان مركز الخلافة. أما وظيفتها، فكانت عبارة عن قاعدة عسكرية وأمنية متقدمة على حدود الاتحاد السوفياتي قبل أن يتفكك وتدخل أنقرة في رحلة بحث عن وظيفة جديدة، وجدتها تارة بالتركيز على فكرة «الجسر» الذي يربط الشرق بالغرب، وطوراً بـ«الانتماء الأوروبي» وتسوّل عضوية الاتحاد الأوروبي.
مرحلة من التخبط رافقتها أزمة اقتصادية هيكلية كادت تؤدي إلى انهيار البلاد، التي فوّضت في 2002 مهمة الإنقاذ لحزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أدوغان، الذي يحمل مشروعاً سياسياً ـــــ اقتصادياً ـــــ اجتماعياً يقوم على عملية إصلاح بنيوي تُعيد صياغة دور تركيا ووظيفتها.
على المستوى الأول، بدأت تركيا تؤدي دور الأنموذج لإسلام معتدل ليبرالي يحافظ على الأصول وقادر على التعايش مع الغرب، الذي رأى فيه بديلاً من النماذج التقليدية (الوهابية والبن لادنية...).
أما على المستوى الثاني، فقد باشرت تركيا ـــــ أردوغان، بخطى بطيئة، لكن ثابتة، العمل لاكتساب وظيفة «عامل الاستقرار»، «الوسيط»، «إطفائي الحرائق»، التي يعجز الغرب عن إخمادها رغم أنها تؤلم أصابعه. وهي في سعيها ذلك، بنت سياستها على قاعدة أنها تمتلك «عمقاً جغرافياً» بـ«هويات إقليمية متعددة» (لكونها تنتمي إلى الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى وبحر قزوين والبحر المتوسط والخليج والبحر الأسود، وأوروبا)، و«عمقاً تاريخياً» منبثقاً من إرثها العثماني.
دور كهذا يتطلب «صفر مشاكل مع دول الجوار» وتعزيزاً للعلاقات، بحسب تعبير منظّر السياسة الخارجية لتركيا ـــــ أردوغان، أحمد داوود أوغلو. نهج بوشر العمل به مذ تولي العدالة والتنمية السلطة. أول تعبيراته رفض الحكام الجدد فتح الأجواء والأراضي التركية للغزو الأميركي للعراق. لكنه اكتسب زخمه مع الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس بشار الأسد عام 2004 إلى أنقرة، حيث أجرى مصالحة صفّى في خلالها جميع المشاكل العالقة بين البلدين، التي كادت تتحول صداماً مسلحاً عام 1998ـــــ 1999، بينها قضية لواء الإسكندرون (مصالحة كان قد مهّد لها الأسد الأب بطرد عبد الله أوجلان من سوريا في 1999، في خطوة قابلها الرئيس التركي السابق أحمد نجدت سيزر بمشاركته في جنازة الرئيس الراحل عام 2000).
أدّت مبادرة سوريا، «بوابة تركيا إلى العالم العربي» بحسب القاموس التركي الحديث، إلى تفعيل أنقرة لسياسة «إلى الشرق در»، حيث بدأت العمل على تحسين علاقاتها مع كل من سوريا والعراق وإيران، وصولاً إلى دول مجلس التعاون الخليجي. وما الاتفاقات التي وقعت قبل أيام في كل من حلب وبغداد إلا آخر حلقة في سلسلة التقارب مع الجوار.
تعزيزٌ للعلاقات كانت فاتحته مع عاصمة الرشيد «الاتفاق الاستراتيجي» (لعام 2007، يسمح لأنقرة بقصف المواقع الكردية بناءً على معلومات فضائية تقدمها واشنطن وإذن من بغداد)، وانطلاقتها مع تعيين تركيا سفيراً فوق العادة لدى بغداد في أعقاب الزيارة التاريخية لأردوغان إلى العراق في 2008. لا شك في أن الطمأنات الكردية والتخلي عن نظرية «الكفاح المسلح» بعد اعتقال أوجلان، إضافة إلى الرخاء الاقتصادي الذي تشهده كردستان العراق (الشريك التجاري البري الأول لتركيا) قد أدّت دوراً كبيراً في هذا التقارب.
حتى إيران، التي ربطتها علاقة عداوة مع تركيا بحكم اصطفاف هذه الأخيرة في الحرب الباردة، إضافة إلى الخلاف الإيديولوجي (ديني ـــــ علماني) والمذهبي (شيعي ـــــ سني) و«عداوة الموقع» (تتنافسان على زعامة المنطقة)، لم تنجُ من محاولات التقارب التركية. وأبرز دليل على ذلك زيارة محمود أحمدي نجاد التاريخية، التي جرى الاحتيال فيها (إسطنبول بدلاً من أنقرة، و«زيارة عمل» بدلاً من «زيارة دولة») لتجنيب الضيف الإيراني زيارة قبر أتاتورك.
دور ووظيفة ونهج، غايتها النهائية ـــــ بحسب داوود أوغلو ـــــ التحوّل إلى رقم صعب في المعادلة الإقليمية بما يزيد من جاذبية تركيا للغرب عموماً ولأوروبا خصوصاً، ويضمن لها عضوية «الاتحاد» برأس مرفوع. غاية لا تحققها طبعاً العلاقة مع إسرائيل أو مصر أو السعودية صاحبة الخطوط المفتوحة على واشنطن، بل «الانخراط الإيجابي» مع «محور الشر» والقدرة على محاصرة أخطاره، عبر الدفع باتجاه تسويات تضمن استقرار المنطقة. الإيديولوجيا لا بد من أنها تؤدي دوراً جاذباً هنا. الدفاع عن غزة وأهلها و«إذلال» إسرائيل يجمعان العالم الإسلامي حول تركيا.
أنقرة تتحول إلى أستانة جديدة، فهل من مستيقظ في الرياض والقاهرة؟