بدر الإبراهيم*الاختلاط هي المسألة الأكثر إثارة للنقاش في موضوع جامعة الملك عبد الله، وهي التي طغت في الإعلام السعودي ومواقع الإنترنت على الطابع الاحتفالي لمناسبة افتتاح الجامعة وعلى لقاء الرئيس بشار الأسد بالملك عبد الله، وتحولت المسألة إلى معركة جديدة بين الاتجاهات الفكرية المختلفة في السعودية. يلفت النظر في قضية الجامعة ما كتبه الأستاذ أحمد عدنان («الأخبار»، على رصيف كاوست: مناحة الخوف في السعودية ، 12/ 10/ 2009) عن إقالة الشيخ الشثري، وما قاله الإسلاميون في ذلك. ومع الاحترام والتقدير لطرح الأستاذ عدنان، إلا أنه قفز إلى استنتاجات غير دقيقة وتجاوز مسائل مهمة في تحليله.
خرج الأستاذ أحمد عدنان باستنتاج رئيسي من معركة الجامعة هذه اعتبره في غاية الأهمية، وهو أنها المرة الأولى التي يرفع فيها السلفيّون لواء حرية التعبير. وفي هذا، برأيه، انتصارٌ يُسجّل للخطاب الليبرالي السعودي. واستشهد بمقولة لصادق جلال العظم يرى فيها انخراط الإسلاميين في المسألة الديموقراطية بأي شكل انتصاراً للفكر التنويري.
على امتداد العالمين العربي والإسلامي، مثّل الإسلاميّون ظاهرةً جماهيرية منذ نهاية السبعينيات، وارثين بذلك التيّار القومي واليساري، لكنهم اصطدموا بالأنظمة الحاكمة التي رأت فيهم خطراً كبيراً عليها، وحيث إن هذه الأنظمة تعاني فقدان الشرعية الشعبية (فضلاً عن «الشرعية الإلهية») واستشراء الفساد فيها، فقد وجد كثيرٌ من الإسلاميين بعد المراجعة أن العملية الانتخابية توفّر إحدى الوسائل التي يُمكن استخدامها للوصول إلى السلطة، ولو جزئياً، وتطبيق المشروع الإسلامي في ظل نفور الجماهير من هذه الأنظمة واقترابها من طرح الإسلاميين. إن الحاجة هنا هي الدافع الأساسي لإيمان الإسلاميين بصندوق الاقتراع (وليس بالممارسة الديموقراطية بكل أبعادها)، والقمع الذي تتعرض له التيارات الدينية من بعض أنظمة الحكم يجعلها تطالب بحرية التعبير دون إيمان حقيقي بها يُترجم على مستوى الأدبيات والشعارات، ومع ذلك لا مشكلة في الإقرار بأن هذه القناعة الضيّقة ببعض الممارسات الديموقراطية التي أملتها الظروف تُعَدّ مكسباً لفكر التحديث.
غير أن هذا لا ينطبق على السلفيين السعوديين، لانتفاء الحاجة إلى رفع شعارات الديموقراطية والحريات، وهذا عائدٌ لكونهم التيار المهيمن والمتنفّذ في البلد. ورغم أنّهم شاركوا في الانتخابات البلدية بقوة، متجاوزين الإشكال الفقهي القديم بشأن شرعية الانتخابات، فإنّ ذلك كان من باب استعراض القوّة والردّ على المشكّكين بنفوذهم وجماهيريتهم، ولم يكن للخطاب الليبرالي السعودي الفضل في انخراطهم في العملية الانتخابية بل للسلطة السياسية التي قررت إجراء الانتخابات.
لا يرفع السلفيون شعارات حرية الرأي والتعبير لأنهم لا يحتاجونها، وهم في الواقع يرفعون شعارات القمع بوجه معارضيهم «أذناب الغرب». وهذه المرة مع الضجة التي أحدثتها إقالة الشيخ سعد الشثري، وجد السلفيون في تحريض الليبراليين للسلطة على معارضي الاختلاط في الجامعة، ثم في شماتتهم بالشيخ الشثري، فرصةً لتسجيل النقاط في المعركة المستمرة بين الطرفين من خلال إدانة الليبراليين بتناقض أدبياتهم وسلوكهم الأخير.
إن هذا الاستشهاد بالأدبيات الليبرالية لا يعني اقتناعاً بها، بل استخداماً لها كأداة إدانة، والقفز إلى استنتاج آخر هو أمر غير دقيق وفيه مبالغة كبيرة. كما أن إدانة النزعة الإقصائية لدى التيار السلفي انتصاراً لمبدأ حرية التعبير وتجاهل انتقاد الليبراليين على سلوكهم الإقصائي الأخير، يُعَدُّ ابتعاداً واضحاً عن التحليل الموضوعي. عبر مجموعة من النقاط والاستشهادات، وضّح الأستاذ أحمد عدنان أن سلوك السلفيين قمعي تجاه الآراء المختلفة معهم، لكنه تجاوز سلوك الليبراليين المحرّض باستمرار للسلطة على السلفيين والمعبّر عن ثقافة إقصائية تتناقض مع الشعارات المرفوعة عن حرية الرأي والتعبير واحترام الآخر. صار معلوماً أن الخطاب السلفي يرسخ ثقافة أحادية وقمعية وما إلى ذلك من هذا الكلام المعروف، لكن المنتظر من الأستاذ أحمد وسواه أن ينظروا إلى سلوك الليبراليين ومواقفهم الإقصائية بعين نقدية، لأن هناك من يدّعي الليبرالية وهو لا يفهم معناها ولا يطبّق شعاراتها التي صدّع بها رؤوس الناس ليلاً ونهاراً.
إضافة إلى ذلك، قدّم الأستاذ أحمد عدنان تحليلاً منطقياً عدّد فيه أسباب القول بأن معركة إقالة الشيخ الشثري لم تكن معركةً بين الإسلاميين والليبراليين، أي إن الليبراليين لم يكونوا مؤثرين في صنع قرار إقالة الشيخ الشثري، ولا كانوا وراء إنشاء الجامعة أو السماح بالاختلاط فيها، بل كان قرار القيادة بإنشاء جامعة بهذا المستوى ووفقاً لمعايير معينة تتطلب السماح بالاختلاط فيها وتمييزها بأجواء خاصة مشابهة لأرامكو التي تبنت مشروع إنشائها.
إن هذا يقود إلى الاستنتاج بأن النخب الليبرالية (وليس التيار الليبرالي، لأنه لا وجود لتيار ليبرالي في السعودية له قادةٌ ومنظّرون ويستند إلى قاعدة جماهيرية ورؤية ومشروع واضحين) لم تكن فعّالة إلى الحد الذي يمكن أن تسجل فيه لنفسها أي إنجاز في ما يخص مطالبها التحررية والتحديثية. وما حدث في قضية الشيخ الشثري هو أنهم حرّضوا السلطة وشمتوا بالإقالة ولم يكونوا سبباً في صدور القرار، وهذا ينطبق على الجامعة والاختلاط فيها حيث طبّلوا لما حدث ولم يكونوا صانعيه أو مساهمين في صناعته.
تحليل الأستاذ أحمد عدنان يؤكّد فشل النخب الليبرالية في التأثير

سلوك السلفيّين قمعيّ وسلوك الليبراليّين المحرِّض للسلطة على السلفيّين يعبّر عن ثقافة إقصائيّة

في صناعة القرار وتحقيق مطالبها، وهذا ما يشير إلى ضعف في الخطاب الليبرالي وسذاجة أحلام النخب الليبرالية وتكتيكاتها، بالإضافة إلى طغيان المصالح الشخصية والانتفاع بالقلم على «المبادئ والأفكار التنويرية» والمطالبة الجادة بالإصلاحات في المجالات كلها.
إن سيطرة الفكر الرجعي على المؤسسات يُعتبَر عائقاً أساسياً وكبيراً لتقدُّم مشروع الإصلاح. لكنّ فشل النخب الليبرالية وتقديمها المصالح الشخصية على قضايا الإصلاح وإخفاقها في التحوّل إلى حالة جماهيرية وعدم تبلور مشروع حقيقي عندها (غير معارضة السلفيين ومناكفتهم) ورهانات بعضها الخاسرة والغبية على مشروع المحافظين الجدد في أميركا، جعلتها عائقاً آخر أمام مسيرة الإصلاح والتنمية.
ما حدث في موضوع جامعة الملك عبد الله يقدّم نموذجاً (للمعارك الفكرية) في السعودية حيث تتراجع القضايا المحورية لمصلحة صخب النقاش في الفرعيات، مع التسليم هنا بكون قضايا الاختلاط وحقوق المرأة وسواها قضايا ضاغطة في المجتمع السعودي وتترتب عليها أيضاً آثار اقتصادية وتنموية مهمة. لكنّ ما يحدث هو أنّ استغراق كامل هذه المواضيع يستهلك الوقت والجهد ولا ينتج إلا مشهداً كوميدياً يحضر فيه الإقصاء وتكثر فيه الشتائم المتبادلة ويبدو فيه المتعاركون مجموعةً من الكومبارس خارج الصورة الرئيسية.
تستمر حفلات الإقصاء في استمرار متعة خوض الحروب الصغيرة والسطحية، وفي استمرار النزعة الإقصائية عند الأطراف المتعاركة، ولا عزاء لحرية الرأي والتعبير والممارسة الديموقراطية.
* كاتب سعودي