لم تفق الشيوعيّة العربيّة من هول الصدمة. أُصيبت باليتم والفجيعة. الاتحاد السوفياتي (وحلمُهم) انهار بالكامل. والحركة الشيوعيّة العربيّة في شقّها الستاليني البكداشي الحاوي الإبراهيمي تأثّرت أكثر من غيرها من الحركات الشيوعيّة حول العالم، لأنها لم تكن تتمتّع بالكبرياء السياسيّة أو بالحد الأدنى من الاستقلاليّة الفكريّة أو العقائديّة، أو بالابتكار النظري. انهارت مع الانهيار في موسكو. كانت فرعاً للحزب الشيوعي السوفياتي وأجهزة حكمه، وارتضت ذلك
أسعد أبو خليل*
مثّل كريم مروّة نموذجاً يصلح للتحليل والنقد. انهار الاتحاد السوفياتي وانهار عدد كبير من الأحزاب والرفاق حول العالم. تهاووا مثلما تتهاوى قصور من ورق اللعب. يمكن التعميم بالقول إن الأحزاب التي لم تكن تملك أية استقلاليّة عن موسكو هي التي تضرّرت أكثر من غيرها. لم تستطع أن تلتقط أنفاسها لتنهض، وخصوصاً إذا كانت غير مبتكرة البتّة في مجال الفكر الماركسي، كما هي حال الحزب الشيوعي الأميركي أو الحزب الشيوعي اللبناني أو منظمة العمل الشيوعي، أو حتى الفصيل الشيوعي الثوري، حزب العمل الاشتراكي العربي ـــــ لبنان، الذي كان قد اعتنق الديمتروفيّة (والذي يستحق التنويه لأنه بالفعل كان المؤسِس الفعلي على صغر حجمه لجبهة المقاومة الوطنيّة عام 1978، ولم يعتنق الثنائي حاوي إبراهيم الفكرة إلا عام 1982).

ولكن ليس من الإنصاف تجاهل الحروب والمشاكل التي اعترضت مسيرة الشيوعيّة دون الانتقاص من العامل الذاتي: عمدت الولايات المتحدة (بالاشتراك مع الأنظمة العربيّة الشخبوطيّة) إلى شن حرب شعواء وإنفاق الملايين لتقويض الفكر والعمل الشيوعيين. كان النقابي الشيوعي مصطفى العريس يُلاحَق في كل مؤتمر يحضره، وقد يكون أُسقط في الانتخابات (بإيعاز من أميركا). والأوراق الخاصة لفريد شهاب (الذي يبدو من قراءة أوراقه هذه أنه أنشأ «جهازاً «خاصّاً» للتجسّس على اليسار العربي لمصلحة جهة خارجيّة ما بعد تقاعده المُبكِّر من إدارة الأمن العام. راجع كتابه «في خدمة الوطن» الذي يعطي صورة عن مدى الاهتمام الغربي التفصيلي بشؤون الحركة الشيوعيّة وشجونها. كذلك فإن الأنظمة الغربيّة (حتى لا نتحدّث عن أنظمة عربيّة) اخترقت الأحزاب

عندما حاول بعض
الشيوعيين اللبنانيين التعاطف مع ضحايا الغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا تعاملت معهم قيادة الحزب بصرامة «بيريا»

الشيوعيّة العربيّة وقوّضتها من الداخل. تقرأ في أرشيف «متروخين» للـ«كي.جي.بي» أن محامياً عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني في الستينيات (وهو صديق مُقرّب من نقولا الشاوي) كان يعمل لحساب الاستخبارات البريطانيّة (وانتظرت الحكومة السوفياتيّة سنوات قبل أن تُعلم الشاوي بالأمر عام 1971 (والشاوي اعترف للسوفيات بأنه شكّ في أمره منذ عام 1949، لكنه أبقاه في القيادة) (راجع كتاب كريستوفر أندرو، «السيف والترس»، ص 340 341). ولا نعلم إذا كان عضو المكتب السياسي المُوقّر هو نفسه الذي كان يكتب تقارير من الداخل لفريد شهاب، كما يظهر من أوراقه الخاصّة. لكنّ الشيوعيّة العربيّة تتحمّل القسط الأكبر من المسؤوليّة لأنها لم تقطع صلة الرحم بالمركز في موسكو وانصاعت إلى درجة الانحلال، كما حصل مع الحزب الشيوعي المصري الذي حلّ نفسه بأمر من موسكو.
وكريم مروّة كان خلال عقود يُعدّ مفكّراً وقياديّاً شيوعيّاً على مستوى العالم العربي. وهو الآن ينصرف إلى ذمّ الشيوعيّة في إعلام آل سعود وآل الحريري. أصبح الرفيق السابق مجرّد مقلّد لسيرة قدري قلعجي ـــــ مندوب عن وزارة الإعلام الكويتيّة، حاملاً حقيبتها كما وصفه إبراهيم سلامة ـــــ. ويمثّل مروّة في سنوات شيوعيّته الخطاب الشيوعي الستاليني الجامد الذي يستحق عن جدارة وصف «اللغة الخشبيّة»، التي كثيراً ما أبعدت الشبيبة عن الفكر الشيوعي. صفحاتٌ طويلة من التنظير العقيم الذي لم يكسب تأييداً ولم يضف إلى النموذح العربي من الماركسيّة ابتكاراً أو حاشية أو فكرة. كان يكفي الاستشهاد ببيانات الحزب الشيوعي السوفياتي، والإشادة بحكمة قادته والدعوة للأنظمة الشيوعيّة بطول العمر. بيانات وخطب ومقالات عن «الصداقة» بين الشعوب العربيّة وشعوب الأنظمة الاشتراكيّة، التي اكتشفنا أن هونيكر وبريجنيف لم يكونا يتكلمان باسمهم. لولا الحياء، لكان قادة حزب نقولا الشاوي قد دعوا لصلاة استسقاء للمناطق العطشى من الكتلة السوفياتيّة آنذاك. لا، لم يعرف الحزب الشيوعي اللبناني في الحقبة الشاويّة الحاويّة حياءً في درجة الارتهان الذيلي لموسكو.
لكن مروّة تغيّر تدريجاً: لم يتوقّف عن الشيوعيّة بمجرّد زوال الاتحاد السوفياتي: على العكس. كان جزءاً من مثلث رابطة أمسكت بزمام الحزب بيد من حديد وقادته على امتداد التسعينيات. لكن مروّة بدأ بالإفصاح عن حبّه للحياة، وعن حبّه لرفيق الحريري، بعد اغتيال الحريري، وبعد اكتشاف الإعلام السعودي والإعلام الحريري لحكمة الشيوعي السابق. انتشى بالاهتمام الشيوعي السابق وزاد من محاولة إبهارهم بحبّه الحياة، ومعاداته للشيوعيّة. الرفيق السابق اكتشف حب الديموقراطيّة: وكما كان جامداً عقائديّاً في حب الستالينيّة، أصبح جامداً في حب الديموقراطيّة.
تحدّث مروّة إلى «الأخبار» (27 آب 2009) عن تاريخه وقال إن الحزب بدأ منذ المؤتمر الثاني باتخاذ «قرارات تاريخيّة»، بما فيها «تحرير» الحزب من العلاقة «غير المشروطة بالاتحاد السوفياتي». وأضاف مروّة كلاماً منمّقاً عن إضفاء الديموقراطيّة على عمل الحزب في المؤتمر الثاني (1968) والمؤتمر الثالث (1972). ولكن هنا تكمن مشكلة الرفيق السابق كريم مروّة: له أن يعيد صياغة سيرته الذاتيّة كما يشاء، ولكن تعترض العمليّة عوائق. فكتابات مروّة ومداخلاته من تلك الحقبة موجودة، كذلك فإن وثائق الحزب الشيوعي اللبناني موجودة ومطبوعة هي أيضاً. ليس هناك ما يدعم ما يقوله مروّة عن المؤتمريْن. على العكس، فإن نقولا الشاوي قاد الحزب بحديديّة ستالينيّة، وبالنيابة عن الاتحاد السوفياتي. فمنذ تسلّم سكرتارية اللجنة المركزيّة، أبعد من شاء وقرّب من شاء وفصل من شاء.
وكانت القيادة الشاويّة ترفض دعوات قاعديّة لعقد مؤتمرات الحزب (راجع إبراهيم سلامة، «الشيوعيّون العرب»، «ملف النهار»، ص. 28). وكانت مجرّد الدعوة إلى عقد المؤتمر الحزبي سبباً للإقصاء والفصل والتنديد، وكان مروّة واحداً من الفريق الذي أحاط بالشاوي. أما المؤتمر الحزبي الثاني الذي انعقد بعد طول عناء وتأجيل ومماطلة وتسويف في 1968، فلم يأتِ بأية شحنة ديموقراطيّة خلافاً للمزاعم المُستحدثة لكريم مروّة. على العكس، فإنه سوّغ أفعال الحزب الديكتاتوريّة بالفصل والإقصاء والاستسهال في التخوين عبر اتهام المعارض بالارتماء في أحضان الإمبرياليّة، تماماً على طريقة محاكم عصر ستالين. هاكم هذا القرار من المؤتمر الثاني: «تأييد القرارات والتدابير والخطوات التي اتخذتها اللجنة المركزيّة للحزب في السنوات الأخيرة من أجل صيانة وحدة الحزب وتعزيزها، فكريّاً وسياسيّاً وتنظيميّاً، ومن أجل عزل ودحر الكتل الانقساميّة التي ظهرت داخل الحزب (كتلة نمر ـــــ اغباش ـــــ مطران وكتلة حسن وصوايا وطنوس وبطرس) فكريّاً وسياسيّاً وتنظيميّاً. ويضيف قرار من الحزب أنه «يدعو اللجنة المركزيّة إلى اتخاذ جميع التدابير اللازمة، وبكل حزم، لتصفية كل أثر لهذه الكتل في داخل حزبنا». ولم ينس الحزب طبعاً أن يدعو إلى «النضال» ضد «التكتلات اليساريّة المغامرة» (راجع «نضال الحزب الشيوعي اللبناني من خلال وثائقه»، الجزء الأول، ص. 273). أيّة ديموقراطيّة وقد قمع الحزب بنفسه أيّة مطالبة بحدّ أدنى من تمثيل القواعد ومن التعبير عن تطلّعات تحرّريّة؟ وعندما حاول بعض الرفاق التعاطف مع ضحايا الغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا، تعاملت معهم قيادة الحزب بصرامة «بيريا».
أما المؤتمر الثالث عام 1972، فلا أثر في قراراته ومداخلاته وبياناته (وهي مجمّعة في مجلّد ضخم) لتغيير في علاقة الحزب الذيليّة بالمركز السوفياتي، خلافاً لادّعاءات مروّة. بقي الحزب على ولائه الأعمى للحزب السوفياتي. ولا تتسع المساحة هنا للاستشهاد التفصيلي بكلّ ما جاء في مقرّرات المؤتمر الثالث ووثائقه من تحيّات ومديح وتقدير لمواقف الاتحاد السوفياتي ومناصرته ضد خصومه في الغرب، وضد «خطر» الماويّة. وكانت تهمة التعاطف مع الماويّة كافية للفصل من صفوف الحزب. وقد تضمّنت وثائق المؤتمر الثالث مداخلة لكريم مروّة بالنيابة عن «لجنة الصياغة»، قبل أن يتنصّل من المسؤوليّة في واحدة من جرائد آل سعود، وقبل أن يزعم أنه كان مغلوباً على أمره (كما كان رفيق الحريري مغلوباً على أمره في سدة رئاسة الوزراء، لأكثر من عقد من الزمن) وفيها إصرار على «التفاف» منظمات الحزب «حول اللجنة المركزيّة» (راجع «الشيوعيّون اللبنانيّون ومهام المرحلة المقبلة»، ص. 121). وأكدت اللجنة التي ترأسها مروّة ضرورة «الوقوف... إلى جانب الحركة الثوريّة العالميّة وطليعتها الاتحاد السوفياتي» (ص. 125). أكثر من ذلك، فإن النظام الداخلي للحزب الذي أُقرَّ في المؤتمر الثالث، أكّد «توطيد وحدة الحركة الشيوعيّة العالمية، التي يمثّل الحزب الشيوعي السوفياتي طليعتها المجرّبة».(ص. 666). أين الدلائل على فصم عرى التحالف الذيلي مع موسكو، يا رفيقنا السابق؟
أما العلاقات داخل الحزب، فهي حسب النظام الداخلي آنذاك مبنيّة على «الطاعة الحزبيّة» وعلى «الانضباط الحزبي»، أما الكلام عن الديموقراطيّة فكان من باب مركزيّة لينين «الديموقراطيّة»، والتي توازي الإشارات إلى الديموقراطيّة في أدبيّات الحزب الشيوعي في كوريا الشماليّة. أما النقد والنقد الذاتي فهو مسموح رسميّاً، لكن التجربة العمليّة بليغة. يذكر أحدهم أوّلَ تجربة له مع النقد الذاتي على النسق اللينيني. كان في معسكر تدريب عسكري لأحد التنظيمات اللبنانيّة الشيوعيّة في الجنوب اللبناني في أواخر السبعينيات. صرّح المسؤول عن المعسكر في مستهلّ اللقاء بأن جلسة العشاء ستفرد حلقة يوميّة للنقد والنقد الذاتي. تأوّه أتباع لينين: يا للديموقراطيّة. بدأت حلقة النقد الذاتي في المساء الأوّل، بعد يوم شاق من التدريب. نقدَ رفيقٌ رفيقاً له، وبلطف شديد. طالب بعدم الإخلال بـ«الروح الرفاقيّة.» لم ينتظر «أبو الثورة» ـــــ هدف النقد ـــــ دورَه: صرخ بالرفيق: أنا؟ تنتقدني أنا يا أخا... أنا؟ سأعلّمك درساً لن تنساه يا... كان ذلك الدرس العملي الأول لتطبيق النقد الذاتي على المذهب اللينيني. لم يتأوّه الرفاق بعد ذلك اليوم لسماع إشارات عن «المركزيّة الديموقراطيّة».
وقد تحدّث مروّة أخيراً طويلاً مع جريدة «الشرق الأوسط» (الناطقة باسم الأمير سلمان، وهي المطبوعة الأكثر تعبيراً عن الحلف السعودي الإسرائيلي في المنطقة العربيّة). قال مروّة في ما قال: «أولاً أنا ضد العنف في المطلق، وضد العنف الثوري تحديداً، لأن النتائج التي ترتّبت على هذا العنف بالذات، الهادف إلى تحقيق التقدم، قد أدت إلى تدمير هذا التقدم»(17 أيلول، 2009). لكريم مروّة أن يؤمن بما يؤمن، وله أن يختار منبر الأمير سلمان لتقديم نقد قاس للتجربة الماركسيّة. لكن من اللافت تحديده لمعارضة «العنف الثوري تحديداً». ماذا يريد أن يقول مروّة بهذا الكلام؟ ولماذا يخصّص العنف الثوري دون غيره من أشكال العنف، مثل العنف الرجعي أو العنف المتسربل بالدين، أو العنف الإمبريالي أو عنف المحتلّ؟ هل هذه إشارة غير مقصودة إلى دوافع مروّة في إعادة نظر غير مطلقة في ماضيه؟ ثم من قال إن العنف الثوري هو الذي أدّى إلى تدمير التقدّم؟ وهل وُلدت الديموقراطيّات الغربيّة، ومروّة اليوم يحبّ الديموقراطيّة حبّاً جمّاً كما كان يحبّ المعكسر الاشتراكي حبّاً جمّاً، إلا من رحم العنف (غير الثوري)؟ وهل أراد مروّة في تمييزه بين العنف والعنف الثوري التعبير عن قبول معيّن بنوع من العنف لا يندرج في باب العنف الثوري؟ ثم ألا يستحق الكلام نوعاً من المساءلة؟ كيف يمكن رفض العنف الثوري بالمطلق فيما ترزح أراض عربيّة محتلّة تحت الاحتلال القائم على العنف؟ وإذا أراد مروّة أن يتنصّل من الرابطة العربيّة لكونه بات أقرب إلى فريق «الأمير مقرن أوّلاً»، فيمكن أن نسأله إذا كان رفض العنف في المطلق ليس دعوة إلى إبقاء الاحتلال، والسماح لإسرائيل الطامعة أبداً بقضم مزيد من الأراضي؟
يقسو مروّة في تقويمه العنف الثوري على حزبه السابق الذي لم يحبّذ يوماً العنف الثوري وقد دخل الحرب مرغماً، وكانت إسهاماته العسكريّة متواضعة نسبيّاً، مع أن الحزب نجح في الممارسة غير القذرة أثناء الحرب. يستحق الحزب الثناء لقدرته على عدم الغوص في وحول الطائفيّة والفساد أثناء سنوات الحرب. لم يتعدّ دور الحزب الدفاع عن النفس في وجه الهجمة الكتائبيّة، لكن مروّة يريد أن يعتذر عن تلك التجربة.
كيف يريدنا مروّة أن نقبل كلامه وهو الذي كان قد ألّف كتاباً كاملاً في منتصف الثمانينيات عن المقاومة يحتوي على أكثر من إضفاء رومنسي على ممارسة العنف، حتى كأنك تخال أنك تقرأ مديح جورج سوريل للعنف؟ وفي كتابه هذا يذكر مروّة العمليّات الاستشهاديّة فيقول: «ولا نستطيع، ونحن نقف عند هذا النوع من العطاء العظيم، إلا أن نتذكّر أبطالاً ابتدعوا في الكفاح وفي المقاومة طريقة جديدة، نادرة في مثالها، ابتدعوا العمليّات الاستشهاديّة. إنها ذروة العطاء وذروة التضحية» (كريم مروّة، «المقاومة: أفكار للنقاش عن الجذور والتجربة والآفاق»، ص. 45). لا لبس في كلامه هذا البتة. هل يريدنا مروّة أن نهمل الكتاب بحاله، أم سيزعم أنه كتبه مغلوباً على أمره؟ ولماذا تغيّرت نظرة مروّة إلى العنف الثوري بهذه الصورة الحادّة بعد اغتيال الحريري، ولماذا تزامنت تحوّلات مروّة مع اغتيال الحريري وما رافقها من محاولات من قبل الجهاز الإعلامي الهائل لآل الحريري وآل سعود لاجتذاب فريق من اليساريّين السابقين واجتذابهم للمساهمة في ما كان يُعرف في التاريخ اليساري بـ«كتابة الكراريس» وصوغ الشعارات؟ طبعاً، يحقّ لمروّة أن يراجع وأن يتحوّل وأن يتغيّر. لكن تجربة مروّة، أو دراسة تجربته، لا يمكن أن تنفصل عن سياقها السياسي المعروف. ثم، هل قتل العنف الثوري رفيق الحريري؟
ويضيف مروّة في حديثه مع جريدة الأمير سلمان كلاماً عن العنف وعن كارل ماركس، ويبدو على تحليله اضطراب وتشوّش وعدم إدراك لكتابات ماركس عن العنف. فالرجل (أي الرفيق ماركس) لم يُقدّس العنف لمجرّد العنف، ولم ير أن في طقس العنف تطهيراً ـــــ على قول فانون ـــــ. وماركس قبل إمكان التغيير من دون عنف. فقد قال في خطاب له في أمستردام أمام عصبة عمّاليّة أمميّة عام 1872 ما ترْجمَتُه بالحرف: «نحن على علم بالأهميّة التي يجب أن تلحق بالمؤسّسات والعادات والتقاليد للبلدان المختلفة. ونحن لا ننفي أنه يمكن العمّال تحقيق أهدافهم بوسائل سلميّة في بعض البلدان مثل أميركا وبريطانيا (ويمكن أن أضيف هولندا لو أنني كنتُ أكثر معرفة بمؤسّساتكم)». وليس في النظريّة الماركسيّة ما يمنع التغيير الديموقراطي، بالمعنى الديموقراطي الحقيقي الذي ورد في «البيان الشيوعي»، لا بمعناه في أدبيّات الشيوعيّة الكوريّة الشماليّة أو في أدبيّات الحزب الشيوعي اللبناني أيّام قيادة مروّة نفسه. لكن جهل مروّة بالتراث الماركسي ليس مستغرباً. فالماركسيّة العربيّة المبتذلة أو الشديدة الابتذال اعتمدت على ما سمّاه هربرت ماركوزه في كتاب له «الماركسيّة السوفياتيّة». والماركسيّة السوفياتيّة عمدت إلى إهمال المنبع الفكري، وإبدال الأصيل بالمُشوِّه. حتى الترجمات العربيّة كانت سيّئة، كما دلّل العفيف الأخضر في ترجمته البديلة للبيان الشيوعي.
يجب إنصافاً الاستدراك بأن بدايات تحوّلات مروّة ظهرت قبل اغتيال الحريري بقليل، وإن بصوت خافت ومن دون صدح إعلامي، في حواراته مع صقر أبو فخر. ويقول في هذا الكتاب أنه يعارض «الذهاب إلى الموت عن عمد» (صقر أبو فخر، «كريم مروّة يتذكّر»، ص. 276). ويضيف في سياق الحوار كلاماً جميلاً عن الأديان، ويرى أن العقائد الدينيّة «تركّز على حقوق الإنسان». نلاحظ أن لغة مروّة ومرجعيّته الفكريّة تحوّلتا من التراث الماركسي (وهو يفرد فصلاً خاصاً عن التراث الماركسي في كتابه عن المقاومة) إلى مصطلحات الديموقراطيّة وحقوق الإنسان والمجتمع المدني ونبذ «العنف الثوري».
لكنّ المحكّ لكلام مروّة كمن في الحقبة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، عندما تولّت زمرة الثلاثة (كريم مروّة ونديم عبد الصمد وجورج حاوي) شؤون الحزب. هنا تلخّصت الطبقة اللبنانيّة العاملة والفلاحين بالثلاثة، على قول تروتسكي الساخر عن قيادة ستالين للحزب الشيوعي السوفياتي. هل شحن الثلاثة الحزب بجرعات من الديموقراطيّة؟ على العكس، لم يجرّب الحزب الشيوعي اللبناني ممارسة الديموقراطيّة في صفوف الحزب إلا بعد خروج الثلاثة منه. عندها فقط، جرت انتخابات ديموقراطيّة حقّة، ولم تُعلم النتائج قبل الاقتراع. سقط الاتحاد السوفياتي وسقط معه من كان يتلقّى منه المرجعيّة والبوصلة.

تعامل الحزب الشيوعي مع الحرب الأهليّة بمزاوجة التبعيّة للاتحاد السوفياتي بتبعيّة مماثلة لياسر عرفات

تحتاج تجربة الحزب الشيوعي اللبناني إلى تقويم ودراسة. حزب تعرّض للتنكيل والمحاربة من أكثر من جهة، وكان دائماً ينأى بنفسه عن خوض معركة توحيد اليسار، مسترشداً بنظريّة لينين عن تعدّد الأحزاب الشيوعيّة ومدلولاته. والحزب الشيوعي اللبناني (ومنظمة العمل الشيوعي الحليفة) يتحمّل مسؤوليّة كبيرة في فشل اليسار وفي التهاوي الذي تبع سقوط الاتحاد السوفياتي. لم تكن تجربة الحزب في سنوات الحرب الباردة أو في سنوات الحرب الأهليّة تجربة فذة أو خلّاقة. تعامل الحزب مع الحرب الأهليّة بمزاوجة التبعيّة للاتحاد السوفياتي بتبعيّة مماثلة لياسر عرفات: أي زاد تبعيّة على أخرى. وزمرة القيادة التي تولّت شؤون الحزب بعد نهاية الحرب الباردة تحتاج إلى تقديم أوراق توضيح لتوطيدها ديكتاتوريّة الزمرة، ولتمنّعها عن الاستقالة على أقلّ تقدير، بسبب مسؤوليّتها عن الفشل الذريع في قيادة المسيرة.
لكريم مروّة كامل الحريّة في اختيار مساره السياسي وفي إعادة ترتيب أوراقه السياسيّة وفي نبذ تاريخه ومواقفه. له أن ينبذ الشيوعيّة واليساريّة عن بكرة أبيهما، وأن يعتنق الليبراليّة (الوهّابية الهدى) المرّة المذاق، وهي السائدة في جريدة «النهار» التي لم تكتشف «مواهبه» إلا بعد هجره للمعسكر الشيوعي. ولكريم مروّة أن يعيد النظر في اقتناعاته واحداً واحداً. لكنّ مشكلة ستواجه محاولة كريم مروّة المتأخرة جداً. قدري قلعجي وجلال كشك «قوّما» مسيرتهما في سن مبكّرة. أي إنهما لم يتركا وراءهما تراثاً غنيّاً بالمواقف السابقة. إما أن يحرق كريم مروّة كل ما كتب ويدور على المكتبات لإتلاف ما يحرجه، وإما أن يمحو ذاكرتنا. ولكن حتى لو فعل ذلك، تبقى موجودة تجربة الحزب الستاليني الذي كان هو واحداً من قادته المرتبطين بالأمر السوفياتي. المهمة شبه مستحيلة، أيها الرفيق السابق.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)