حسن خليل


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

يظهر أن الخلفيّة التاريخيّة للفكر السياسي الشيعي ما زالت طاغية. وما زالت إجابة الإمام علي بن أبي طالب عندما سُئل حينها لتبرير تراجع نفوذه أمام خصمه «لولا التُّقى لكنت أدهى العرب» هي التي تقود مسار الترجمة السياسية لما قامت به المقاومة حتى الآن في لبنان. «جريمة» فظيعة اقترفها شعب المقاومة، أنه انتفض على سيكولوجيا الأمة الراضخة للضعف والاستسلام. أنجز التحرير عام 2000 وصمد في أقصى الحروب «العربية» ـــــ الإسرائيلية ضراوة في تموز 2006.
حسناً، ولكن أين هي في الاستثمار السياسي؟ ببساطة نقضوا المسار التاريخي للثورات وحركات المقاومة كما حصل في فرنسا والجزائر وتركيا وفيتنام. ومن دون التقليل من حجم التآمر العربي والدولي على المقاومة، فإنّ المقاومة أصبحت في السياسة في حالة دفاعية مستمرة تكاد تصل إلى وضع اعتذاري. لقد بات واضحاً أن هذا الواقع المرير وغير المنصف في حدّه الأدنى لا يندرج في السياق التاريخي الطبيعي. إنّها ظاهرة فريدة أن يكون هناك تناقض بين موازين القوى والإنجازات على الأرض من جهة، والحضور السياسي الفاعل من جهة أخرى. حتى المشاركة السياسية الخجولة في التمثيل النيابي والوزاري لم تكن حتى الآن في مستوى طموح جمهور المقاومة. ومن غير المقبول، بعدما قدمت المقاومة ما قدمته على مساحة الوطن، أن يكون نواب المقاومة معنيين فقط بتسيير أمور الناخبين من دون تطبيق مفهوم المقاومة في التشريع والمراقبة والمحاسبة.
أصبح الحديث عن «وحدة الصف الشيعي» «التابو» الذي يمنع المنتقدين من رفع صوت انتقادهم. هذه المكيافيلية ضمن الصف الواحد أو المساومة مع الأطراف اللبنانيين في الشأن السياسي اللبناني ستجعل التمثيل السياسي للمقاومة في موقع الاتهام بأنه مثل غيره شريك في إفساد السلطة بعدما «عرّضت المقاومة لبنان للأخطار الأمنية أيضاً». لا استثمار سياسياً للمقاومة من جهة، بل سيقال أيضاً إنها تمثّل غطاءً من حيث لا تقصد للفساد السياسي من جهة أخرى.
وماذا عن الواقع الشيعي في الاقتصاد والاجتماع؟ مَن يقرأ تحاليل البعض عن النفوذ المذهبي ضمن التركيبة اللبنانية البشعة، في القطاعات الاقتصادية، يستنتج كم أن الشيعة في لبنان متخلّفون عن الالتحاق بباقي الطوائف في الحضور النقابي والإنتاجي والمصرفي والخدماتي. غياب شبه كامل عن الهيئات الاقتصادية في الصناعة والوكالات والمصارف وشركات التأمين والسياحة... قراهم مقفرة خلال الأسبوع والضاحية مكتظة فوق طاقتها، مع التشديد على فشلهم في الاقتناع بأنهم جزء من العاصمة بيروت التي يحاول البعض الترويج باستمرار أنها لطائفة واحدة دون الطوائف الأخرى. بطالة متفاقمة أدّت إلى تفشّي ظاهرة الفوضى المنظّمة. جزء من مجتمعهم حضانتهم الغرف من مغانم الدولة ووظائفها، وجزء آخر أصبح رعوياً ومساهمتهم في الناتج القومي قائمة على الاستهلاك لا على الإنتاج.
ثمة أخطاء كثيرة وقعوا فيها، بينما يمكنهم تقديم نموذج في السياسة والإصلاح ومحاربة الفساد تماماً كما فعلوا في العمل الجهادي. لا مبرّر يمنعهم من طرح مشاريع قوانين متكاملة مع الآليات التطبيقية في شؤون الدولة مثل الصحة والطاقة والضمان الاجتماعي والصناعة والدين العام والعشرات من الملفات السرطانية المعنية بشأن المواطن. ولكن هذا غير ممكن من دون الخروج من ذهنية «أننا لا نذهب إلى أحد، ومَن أراد الانفتاح علينا فسنبادره بالمثل». هذه الذهنية نفّرت المئات من كفاءات الشيعة في الداخل والخارج، الذين يمكن أن يكونوا عصب آلية الإصلاح والتطور.
اجتماعياً واقتصادياً، هناك خطوات وإجراءات عديدة مطلوبة فوراً. فما يحصل في الشوارع لا يمكن أي ضمير مسؤول التغاضي عنه. نادي كرة قدم هنا ومقهى هناك ليسا كافيين لتنفيس الاحتقان نتيجة البطالة والانغلاق الاجتماعي. فالبيئة الشيعية، كما البيئات الأخرى، لا يمكن عزلها عن التحولات التكنولوجية والإعلام المفتوح، إذ إن من غير المعقول القبول بوجود خجول لمساحات ثقافية مدنية تُضبَط بحرص فائق؟
من جهة أخرى، فإن أهم وصيّة تركها الشيخ محمد مهدي شمس الدين للشيعة هي أن يكونوا دوماً جزءاً من نسيجهم الوطني، لا أن يكونوا فئة «متميّزة» يريد الآخرون إيقاعهم فيها. من هنا عليهم اجتماعياً أن لا يقلّدوا أي طرف، وهذا لا يناقض تحالفاتهم الاستراتيجية ومصيرهم المشترك. أما إنتاجياً، فتوجيه الجهود مستقبلاً للإنماء الزراعي (شتلة التبغ لم تكفِ ولن تكفي) والصناعي في مناطق الوجود أساسي لإعادة إحياء المناطق. في العاصمة يمكن الطاقات أن تكون حاضرة في غرف التجارة والصناعة والنقابات. هذا الحضور شبه مفقود حتى الآن. في القطاع المصرفي، القائم على المبادرة الفردية، التجارب كانت أكثر من مريرة، ابتداءً من بنك مبكو، مروراً بالإنعاش وظاهرة صافي حرب. فشل مستمر نتيجة عدم الفصل بين مصلحة المصرف والنفوذ السياسي. الموقع المصرفي المرسّخ شيعياً رسمياً في بنك أنترا أقل ما يقال فيه أنه مهمّش بدل أن يكون أداة لإطلاق مشروع وطني.
المقاومة ثبّتت حقوق الإنسان في العيش بأمان في أرضه، ولكن المطلوب مقاومة تثبّت حقوق المواطن للعيش بكرامة في وطنه. وما دام للمقاومة حساسية تجاه انتهاك الإنسان في أرضه وهي تقدّم شهداء لذلك، لماذا لا تستثيرها حساسية نتيجة الانتهاك اليومي لكرامة المواطن في عيشه، وفي ارتهانه لسلاطين القوم. أهمّ دعم للمقاومة بعد سلاحها، هو مقاومة في الداخل قائمة على الفكر السياسي الإصلاحي والإنتاج الاقتصادي والتطوير الاجتماعي.