انتظر أهالي كفرعبيدا إعلان شاطئهم محمية بحرية، لكن شركة استثمارية نجحت في الحصول على مرسوم حكومي يجيز ردم 37 ألف متر من الشاطئ. بعد سنتين على تشريع «الجريمة» قلصت وزارة البيئة الردم إلى 4 آلاف متر
بسام القنطار
يمثّل المرسوم الرقم 955 الصادر في الجريدة الرسمية بتاريخ 23/11/2007 الذي يرخص بإشغال 37026 متراً من الأملاك العمومية البحرية في كفرعبيدا، نموذجاً للصفقات السياسية التي مُرّرت في مجلس الوزراء خلال أزمة الحكم التي امتدت منذ الاستقالة الجماعية لوزراء المعارضة، وصولاً إلى اتفاق الدوحة.
جاء هذا الترخيص بناءً على استدعاء تقدمت به «شركة إنماء الشواطئ اللبنانية»، التي تمتلك ثلاثة عقارات على شاطئ كفرعبيدا تبلغ مساحتها الإجمالية 19357 متراً. ولقد سلك هذا الاستدعاء بسرعة في أروقة وزارة الأشغال العامة والنقل، ومر سريعاً على المجلس الأعلى للتنظيم المدني، ليجد طريقه إلى الإقرار في مجلس الوزراء، في الفترة التي كان رئيس الجمهورية السابق العماد إميل لحود، يرفض التوقيع على القرارات التي كانت ترده من مجلس الوزراء باعتبارها غير دستورية.
لكن «غير دستوري» ليست الصفة الوحيدة التي يمكن أن تُلصق بجلسة مجلس الوزراء المنعقد بتاريخ 4/6/2007. فقرار إعدام شاطئ كفرعبيدا الذي اتخذ في هذه الجلسة هو نموذج لقوننة سرقة الساحل اللبناني، والتفريط بحق اللبنانيين بالوصول إلى كل الشواطئ التي تزيّنه وتحميه، وخصوصاً أن شاطئ كفرعبيدا هو واحد من أجمل المواقع الطبيعية وأندرها على المتوسط.
ويشتمل شاطئ كفرعبيدا على نتوءات صخرية طبيعية وبرك بحرية وكهوف صغيرة يعود عمرها إلى آلاف السنين. ويمثل هذا الكيان الطبيعي، إضافة إلى رأس الشقعة والمنطقة القائمة بين البياضة ورأس الناقورة، آخر الشهود على ما كان عليه المنظر الطبيعي على الشاطئ قبل تعرضه لضغوط حركة العمران.
تعرض شاطئ كفرعبيدا لبعض التعديات خلال فترة الحرب الأهلية، لكن التعدي الأكبر الذي تخطط له شركة إنماء الشواطئ اللبنانية، يقضي بردم مساحات واسعة من البحر لإقامة كاسري أمواج يغطيان كامل المنطقة المنوي الاستثمار فيها، وطمر الشاطئ الصخري وتحويله إلى رملي وإقامة مرفأين للمراكب السياحية، على غرار تلك التي أقيمت في الضبية والنرومندي، من دون أي دراسة مسبقة للأثر البيئي، ومن دون الأخذ برأي المجلس الأعلى للتنظيم المدني ووزارة البيئة، علماً بأن الخطة الشاملة لترتيب الأراضي توصي بالحفاظ على مجموعة من المواقع الساحلية ضد أي تغيير في هيئتها الأصلية، ومن ضمنها شاطئ كفرعبيدا الذي أجاز مجلس الوزراء ردمه وتغيير معالمه واستملاكه من شركة خاصة.
تشير نانسي عوض، رئيسة لجنة تقييم الأثر البيئي في وزارة البيئة، إلى أن الوزارة لم تستلم دراسة للأثر البيئي للمشروع ولم تطّلع على خرائطه والمساحة المنوي إشغالها قبل صدور مرسوم الترخيص، وهذا الأمر يخالف التوصية التي تقدم بها المجلس الأعلى للتنظيم المدني الذي طالب بأن تجري دراسة الأثر البيئي للمشروع، بإشراف وزارة البيئة قبل صدور مرسوم الترخيص. لكن وزير الأشغال السابق محمد الصفدي، آثر منح الترخيص بصيغته المقدمة من الشركة، وطلب منها تقديم دراسة تقييم أثر وإخضاعها لموافقة وزارة البيئة، قبل البدء بتنفيذ الأشغال.
ومن المعلوم أن دراسة الأثر البيئي لأي مشروع استثماري يستند إلى التصاميم الهندسية التي تضعها الشركة المتعهدة، وفي حالة مشروع كفرعبيدا فإن التصاميم لم تكن أصلاً مطابقة للشروط البيئية، لذلك فإن فريق وزارة البيئة خاض جولات عديدة من النقاش مع أصحاب المشروع ومع الشركة الهندسية المتعهدة من أجل التعديل في التصميم الأساسي قبل دراسة تقييم الأثر البيئي.
تشرح عوض المرحلة التي قطعها المشروع منذ وصوله إلى وزارة البيئة في آب عام 2007 حتى صدور موافقة من الوزارة عليه في 17/3/2009 بعدما خضع لتعديلات جوهرية. وفي سابقة هي الأولى من نوعها، نجحت وزارة البيئة في إعادة تصميم كامل المشروع. ومن التعديلات التي أدخلها فريق الوزارة على التصميم، إلغاء المرفأ الخاص برسو المراكب السياحية، وإلغاء الشاطئ الرملي المنوي إنشاؤه والإبقاء على طبيعة الشاطئ الصخرية. وإلغاء كاسر الأمواج الخاص بالشاطئ الرملي بالكامل، وتقليص عرض كاسر الأمواج الخاص ببرك المياه الطبيعية وارتفاعه، إذ أصبحت مساحة كاسر الأمواج الجديد تعادل 30% من المساحة الأساسية الواردة في الخريطة المرفقة بالمرسوم الصادر عن مجلس الوزراء. كما تضمن المخطط الجديدة إضافة 17 غرفة خشبية عائمة (Floating Bungalows) مع جسور وأرضيات خشبية على غرار تلك الموجودة في المشاريع السياحية في جزر المالديف. وبذلك تصبح الأملاك العمومية البحرية المجاز ردمها لا تتجاوز 4 آلاف متر مربع من أصل الأملاك العمومية البحرية المرخص إشغالها من مجلس الوزراء والبالغة 37 ألف متر مربع.
وفي سابقة هي الأولى من نوعها أيضاً، اشترط المدير العام للبيئة، بيرج هاتجيان، على شركة إنماء الشواطئ اللبنانية، تسجيل الخريطة الجديدة للمشروع لدى كاتب عدل وإيداع نسخة من مصادقته لدى الوزارة، لضمان الحق العام في حال القيام بأي مخالفة مستقبلاً.

لم يجدد للمشروع ضمن المهلة القانونية، وبذلك يصبح مرسوم الترخيص باطلاً


إلا أن هذه التعديلات والإجراءات لا تعني أن الشركة المتعهدة بإمكانها المباشرة في المشروع، إذ إن المرسوم الصادر عن مجلس الوزراء يعتبر باطلاً لأسباب عديدة. فلقد أعطيت رخصة المشروع لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد ضمناً، ولم تقم الشركة بالتجديد حسب الأصول المتبعة. كما أن المادة الرابعة اشترطت المباشرة بإقامة كل الردميات المخصصة للسنسول في الأملاك العمومية البحرية خلال مدة ثمانية عشر شهراً من تاريخ صدور هذا المرسوم. أما المادة الثالثة عشرة فاشترطت حصول الشركة على ترخيص بالسماح بعبور طريق بيروت ــــ طرابلس الساحلي بواسطة نفق أو جسر، من أجل وصل عقارين كبيرين تملكهما في منطقة متاخمة للشاطئ مع العقارات التي تملكها على الشاطئ مباشرة. وبالفعل فلقد صدر مرسوم آخر يحمل الرقم 1020 بتاريخ 3/4/2008 يجيز إقامة هذا النفق، ضمن مهلة أقصاها سنة واحدة قابلة للتجديد ضمن مهلة شهرين فقط. وقد انقضت السنة ومهلة الشهرين للتجديد ولم تتقدم الشركة بطلب التجديد. وبذلك، يصبح مرسوم إشغال الأملاك العمومية ومرسوم إنشاء النفق باطلين حكماً.
إلى ذلك، يواجه المشروع اعتراضاً مقدماً إلى مجلس شورى الدولة من جوزيف جمال الذي يملك مطعماً شهيراً على شاطئ كفرعبيدا ملاصقاً للمشروع. وأكد الجمال لـ«الأخبار» أنه «طالب مع عدد من أهالي المنطقة وجمعيات بيئية بوقف المشروع برمّته وصدور قانون يحمي الشاطئ في كفرعبيدا من جشع الشركات الاستثمارية التي لا تزال تبحث عن مخارج جديدة في أروقة الوزارات وبدعم نواب القضاء ورئيس البلدية طنوس الفغالي».
وقد حاولت «الأخبار» مراراً الاتصال بفغالي وبريمون عبد الأحد، صاحب المشروع، ليشرحا موقفهما، لكنهما لم يجيبا على الاتصالات.


العريضي يعد بإلغاء المرسوم

حدد مجلس الوزراء التعويض السنوي لإشغال 37 ألف متر من الأملاك البحرية العمومية في كفرعبيدا، بمبلغ قدره 46 مليون ليرة لبنانية تدفع سنوياً إلى صندوق رئاسة مرفأ شكا. ويعتبر هذا الرقم زهيداً جداً بالاستناد إلى السعر الحقيقي لمتر الأرض المنوي إشغاله. ويحدد المرسوم الرقم 2522 تاريخ 15/7/1992 أسس البدلات السنوية المترتبة على الترخيص بإشغال الأملاك العمومية البحرية. ولم يخضع هذا المرسوم لأي تعديل منذ تلك الفترة، علماً بأن الحد الأقصى لسعر المتر الواحد وفق هذا المرسوم لا يتجاوز المليون و250 ألف ليرة لبنانية. ويعتمد في سبيل تحديد البدل السنوي القاعدة التالية: المساحة المشغولة X سعر المتر المحدد X 0.50% أو 0.75% تبعاً لنوعية الإشغال. ويؤكد مازن عبود المستشار في برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن المشروع برمته يمثّل فضيحة للحكومة اللبنانية. وقد تقدم عبود إلى وزير الأشغال غازي العريضي بطلب لإبطال المرسوم، ووعد الأخير بأن يحصل ذلك في أقرب فرصة.