تمر سنوات قبل أن ينطق القضاة بحكمهم في «قضايا العمل»، أحمد النعنع تقدم بشكوى ضد مشغله الذي صرفه دون سابق إنذار، بعد 5 سنوات حكمت الحكمة لمصلحته. المدعى عليه تقدم بدعوى أمام محكمة التمييز قبل عامين، ولم يصدر الحكم بعد
بيسان طي
في 26 حزيران 2008، توفي أحمد خليل النعنع. اللاجئ الفلسطيني ولد في يافا عام 1929، وهو في لبنان حمل البيان الإحصائي الرقم 1364. كان من الممكن أن تكون قصة النعنع «عادية»: فلسطيني وصل إلى لبنان سيراً على الأقدام عام 1948، عاش في خيم تغرق في الوحول شتاء، وتحرق ساكنيها بلهيب حرارة الصيف، ثم انتقل إلى بيت من بيوت مخيمات اللاجئين التي لا يعرف نور الشمس إليها سبيلاً.
كان يمكن أحمد النعنع أن يموت بصمت، وفي قلبه «حرقة» لأنه لم يحقق حلم العودة إلى فلسطين. لكن موت النعنع لم ينه حكاية صاحب البيان 1364. في قصر العدل وأروقة المحاكم اللبنانية، ما زالت قضيته مفتوحة: الرجل رفع دعوى ضد مشغله الصيرفي أ. ع. عام 2003 مطالباً برواتب لم تُدفع له، وبتعويض نهاية الخدمة، بعدما طرده أ. ع. من العمل دون سابق إنذار، وقد توفي النعنع دون أن يقبض تعويضه رغم صدور قرار بذلك عن مجلس العمل التحكيمي عام 2007، فالمدعى عليه رفع دعوى أمام محكمة التمييز، ولم يصدر الحكم فيها بعد.
الشكوى التي قدمها النعنع قبل ست سنوات كانت إنذاراً بنهاية علاقة عمل جمعت الرجلين منذ عام 1980. من يراجع أرشيف الصحف اللبنانية الصادرة في 13/5/1982 («النهار» و«السفير» تحديداً) فسيقرأ خبراً عن الصيرفي أ. ع. الذي تعرض لاعتداء من مسلحين أرادوا سلبه، الرجل لم يكن وحيداً، كان «يسير في شارع المقدسي في رأس بيروت مع مرافقه أحمد خليل النعنع (50 سنة ـــــ فلسطيني) وهو يحمل حقيبة فيها مبلغاً من المال، تصدى له مسلح يحمل رشاشاً من نوع «شمايزر»، وتمكن من سلبه الحقيبة، وأطلق النار على النعنع أثناء الفرار فأصابه. أصيب النعنع في رجله، أثرت هذه الإصابة على نشاطه، فابتعد عن العمل لسنوات طويلة، إلا أنه في أواخر عام 1991 عاد ليعمل لدى الصيرفي، وتثبت أوراق القضية أن النعنع عاد للعمل فعلياً عام 1992 براتب شهري يبلغ 300 ألف ل. ل.
حين تقدم النعنع بالدعوى أنكر الصيرفي أنه كان يعمل لديه، وقال إن «العجوز الفلسطيني» عمل لدى شركة أخرى. نقرأ في أوراق هذا الملف الكثير من الردود والردود المعاكسة، وقد ثبت عمل المدعي لدى المُدعى عليه من خلال تقرير أعده الخبير فادي أيوب المعيّن من قاضي الأمور المستعجلة. النعنع كان قد أكد خلال التحقيقات أنه عمل مرافقاً شخصياً للصيرفي، وأضاف حينها «كان يطلب مني أن أذهب لتأمين بعض الشيكات في البنوك»، وللقيام بحجوزات في فندق في الحمرا «وعندما لا تكون هناك أية طلبات خارجية أبقى في المحل تحت الأوامر، وكنت أوصله إلى منزله مشياً».
لدى عودة النعنع إلى العمل بعد الإصابة، كان الصيرفي يدفع له راتبه، وكان، وفق أوراق القضية، يعطيه ورقة ليوقع عليها، وكان رب العمل يحتفظ بهذه المستندات.
نقرأ في أوراق التحقيق أقوال النعنع الذي أكد أنه في أواخر شهر آب عام 2003 «دخل الصيرفي إلى المحل وتهجم علي (أي على أحمد النعنع) ونعتني بالحرامي، من كثرة حزني مرضت، وقد أحضرت تقريراً من الطبيب وأرسلته مع مفتاح المحل»، عندما انتهت مدة الاستراحة الصحية كما حددها التقرير الطبي، أراد النعنع أن يعود إلى عمله، لكنه وجد المحل مقفلاً، طلب من أحد أصدقائه أن يتوسط لتسوية الوضع فيعود إلى عمله، لكن الصيرفي رفض ذلك.
يومها شعر النعنع بالإهانة، واستُغني عن خدماته، كان يبلغ من العمر 74 عاماً، تلفتنا هذه الدعوى إلى معاناة عجوز يحتاج رغم تخطيه العقد السابع إلى أن يعمل في وظيفة شاقة دون أن يأخذ إجازة، ويقبل بالحد الأدنى للأجور حتى يؤمن لقمة عيشه.
في أيلول 2003، تقدم النعنع بشكوى في وزارة العمل «لأن الصيرفي لم يدفع له رواتب عن ثلاثة أشهر ونصف شهر»، وكان النعنع لا يزال مستمراً في عمله.
طالب النعنع بتعويض قيمته 14650000 ل.ل. وتلفت أوراق القضية إلى أن أ. ع. كان قد امتنع عن التصريح لصندوق الضمان الاجتماعي بأن النعنع يعمل لديه، وذلك خلافاً لما تنص عليه المادة 6 من النظام الرقم 7 في ما يخص الانتساب والتسجيل لدى الصندوق، وفي أوراق القضية مذكرة من الضمان الاجتماعي تحمل

أُحيل الملف إلى التمييز بصورة سريعة ومفاجئة دون تمكن المدّعي من الحصول على صورة عنه

تاريخ 16/3/2006 أُدلي بموجبها أنه «يخضع الأجراء اللبنانيون والأجانب الذين يعملون في لبنان المُشار إليهم في المادة 9 من قانون الضمان لنظام الضمان الاجتماعي، ويتوجب دفع الاشتراكات عنهم وبصرف النظر عن واقعة استفادة الأجانب من تقديمات الضمان ـــــ فرع تعويض نهاية الخدمة، لأن تسديد الاشتراكات هو واجب عام وشامل».
في 28/2/2007 صدر عن مجلس العمل التحكيمي في بيروت القرار الرقم 168/ 2007 القاضي بإلزام أ. ع. بدفع مبلغ 4650000 ليرة لأحمد النعنع.
تنفس الرجل العجوز يومها الصعداء، كان قد أمضى أربعة أعوام في أروقة المحاكم، واعتقد أن الملف سيقفل، وأنه سينال التعويض أخيراً لكن الرياح جرت بعكس ما تشتهي السفن. المدعى عليه أ.ع. لم يدفع التعويضات التي حكمت بها المحكمة، بل رفع دعوى أمام محكمة التمييز في 26/3/2007، وسُجل الملف برقم 36/2007.
اللافت، وفق أوراق القضية، أن الحكم الصادر عن مجلس العمل التحكيمي في بيروت بتاريخ 28/ 2/ 2007 برقم 168/2007 الذي ميّز أمام المحكمة بتاريخ 6/3/2007 وسُجل برقم 36/2007، «قد أُحيل إلى محكمة التمييز بصورة سريعة ومفاجئة دون تمكن المميز عليه من الاستحصال على صورة طبق الأصل عنه صالحة للتنفيذ بسبب خروج الملف من قلم مجلس العمل التحكيمي ودخوله إلى قلم محكمة التمييز».
قضية النعنع في أدراج محكمة التمييز، عام من الانتظار لم يكف لتحريك البت بالقضية، انطفأ الرجل، وبعد مرور أكثر من عام على وفاته لا يزال ورثته، أي أولاده الخمسة، ينتظرون حكم محكمة التمييز، يعدون الأيام والأشهر... على أمل أن ينطق القاضي بالحكم في يوم لا يكون بعيداً جداً.


مئات الملفات عالقة

تلفت قضية أحمد النعنع إلى ما يمكن أن يؤدي إليه التأخر في البت بقضايا يرفعها موظفون طُردوا من أعمالهم دون وجه حق. الرجل مات ولم يقبض التعويض، وقد رحل قبل أن يسمع حكم محكمة التمييز في قضيته.
بحسب ما قاله لـ«الأخبار» معنيون وخبراء قانونيون، فإن مئات الملفات الخاصة بقضايا العمل «عالقة منذ سنوات طويلة في التمييز». أصحاب الشأن، أي المتقدمون بالدعاوى، تلحق بهم أضرار عدة في هذا الإطار، فالتأخر في البت بقضاياهم يجعلهم يعيشون لسنوات قبل أن يقبضوا مستحقاتهم، إن قضت المحكمة بحقهم بها. هذه المستحقات ستفقد مع مرور السنوات شيئاً من قيمتها بسبب غلاء المعيشة، والارتفاع المطّرد للأسعار. ولا داعي للتذكير بأن أسعار المواد الأساسية، كالمأكل والمشرب وغيرها، ارتفعت بنسبة 46 في المئة العام الماضي. من جهة ثانية، يضطر المصروفون من العمل إلى أن يتدبروا أمور الحياة فيما هم محرومون من أي دخل مادي في بلد تتقلص فيه فرص العمل، وقد يستمرون على هذه الحال شهوراً أو سنوات، هذا إضافة إلى أن معظمهم يدفع مبالغ مرتفعة للمحامين الذين يتولون الدفاع عنهم، وقد يضطرون للاستدانة لتأمين المال.