وائل عبد الفتاحالعراق أوّل دولة في المنطقة تبني نفسها عبر الإعلانات التلفزيونيّة. العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن يتكوّن عبر دعايات بثّتها حكومات ما بعد الاحتلال الأميركي على الشاشات. دولة بلا مشروع سياسي كبير، وتراهن على تغيير المواطنين من «زمن صدام حسين» الديكتاتور الجبّار، الواضح المعالم إلى زمن بلا ملامح. زمن الحياة الحلوة بلا طائفية ولا مذهبية ولا قتل في الشوارع ولا احتلال ولا ميراث الدم. الحياة الحلوة، صورة روّجت لها الإعلانات التلفزيونية الكثيفة، لكنها لم تمنع من أن يكون آب هو الشهر الأكثر دمويةً منذ عام (456 قتيلاً، بينهم 393 مدنياً و48 شرطياً و15 عسكرياً، إضافةً إلى 1741 جريحاً). الأرقام القياسية في العنف تتحدّى قدرات السلطات العراقية التي تسلّمت الملف الأمني من الأميركيين في حزيران الماضي.
الدعاية لدولة «العراق الجديد» هي قطع طريق على عراق «مختلف عن الموديل الأميركي». الإعلان يجعل منه الاختيار الوحيد. كما كانت دولة الديكتاتور اختياراً وحيداً. دولة الديكتاتور قامت على عبادته ونشر تماثيله وأنصابه وصوره في كل مكان باعتباره «الرئيس الاستثناء»، الذي يقود العراق في لحظاته الصعبة. ومن لحظاته الصعبة تحوّل نظام صدام نفسه إلى لحظة صعبة دخلت عبرها القوات الأميركية بغداد.
بين الدعاية للحاكم الإله (على الطريقة السوفياتية) والدعاية ليوتيوبيا الحياة تحت الاحتلال (على الطريقة الأميركية)، يبدو التغيير في العراق أسير الهوّة بين الدعاية والحقيقة.
الدولة لا يمكن صناعتها بالكامل عبر الإعلان. كما أن الإعلان لن يغير الواقع. ربما دفع إلى تزييفه أو تغطيته بسُحب دخان ملون. وبدا العراق في أزمته مع سوريا كأنه يسير على الطريق القديم نفسه. طريق العشق المستحيل. لكنه من دون البعث ولا الحرب على من يقود الأمة إلى رسالتها الخالدة.
على ماذا تختلف بغداد ودمشق الآن؟ هل هي مؤامرة أميركية؟ إذا استمرت الأسئلة فقد يعود الزمن إلى الدائرة البعثية نفسها من دون البعث.
ما الذي غيّرته الإعلانات في العراق؟ لا يزال بشار الأسد منقذ سوريا ومخلّصها وفاديها من المؤامرات الدولية الكبرى، وهي الدعاية التي عاشت بها أنظمة الديكتاتورية العربية التقليدية من مصر إلى اليمن مروراً بجماهيرية القذافي، آخر أصيل في سلالة تورث فيها الدول من الآباء إلى الأبناء.
مصر حاولت التجديد في المصائر. تحرّكت قليلاً أبعد من موديل الديكتاتور التقليدي. حاولت أن تحول السياسة إلى استعراض وتقدّم الرئيس نجماً تليفزيونياً.
بقية الدول مستوطنات لديكتاتورية قديمة أعادت الدول إلى حالة الصفر. وبعدما كانت أحلام اليمن مثلاً في منتصف الستينيات إزاحة الإمام (الحاكم التقليدي)، تشتعل الحرب الآن لعودة الإمام (بعدما أصبح الرئيس قريباً من الإمام ومصدراً للتخلف وتعطيل صلات المجتمع بالعالم. هكذا انتفت المسافة بين الإمام والرئيس).
لا تخرج دولة عربية واحدة عن الصف. كلها تتعامل مع المستقبل ببلاهة «الخاطف»، الذي لا يثق بمشروعية امتلاكه البيت. فيدمر كل المشروعيات، متصوراً أنها ستكون مشروعيته الوحيدة.
هكذا تتحول الدول إلى ملاعب صراعات. أصابع السعودية وإيران تظهر ببساطة من خلال حرب الحوثيين مع الدولة في اليمن. وكذلك في لبنان حيث تتكوّن التركيبة النهائية للحكومة الجديدة في عواصم ليس من بينها بيروت. هكذا أيضاً في جولات «فتح» و«حماس». كل طرف لا يخفي مرجعياته.
هكذا لا تنظر الدول إلى المستقبل، لكنها غارقة في الواقع. غرق لا خروج منه إلا بمعجزة ظهور قوى جديدة أو التوقف عن الرهان على القوي الموجودة. وبتعبير أدق الشكل الراهن من هذه القوى التي كلما تورطت في معارك اللحظة حدثت داخلها تحولات وتغييرات التوليف مع الكارثة.
تخرج الزعامات والجماعات والرؤساء في العالم العربي كأنها في عرض سوريالي لمتاحف السياسة. هذه التحف تريد أن تكون المرجعية الوحيدة والحامل الحصري للمستقبل. هذا الطغيان العابر للزمن هو الشيء المستقر الوحيد. تصارعه صور هي نفسها تداعب السلطة وتتحالف معها. كلاهما يحوّل العالم العربي إلى ملاعب للطغيان.