عبد العلي حامي الدين *علّق كثيرون على قرار وزارة الداخلية المغربية القاضي بحجز كل من مجلة «تيل كيل» وصحيفة «نيشان» ومنع «لوموند» من التوزيع في المغرب بسبب نشرها نتائج استطلاع رأي عن أداء الملك محمد السادس، بمناسبة مرور عشر سنوات من حكمه. وجاءت التعليقات من زوايا متعددة: المستنكرون لقرار المنع اعتمدوا في موقفهم على النظرية العامة لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وعلى رأسها الحق في التعبير والحق في تداول المعلومة وفي ممارسة حرية الصحافة، وعززوا موقفهم بعدم وجود قانون ينظّم استطلاعات الرأي في المغرب. المؤيدون لقرار المنع قاموا بتأويل قانون الصحافة وبعض مواد الدستور ليخلصوا إلى أن إخضاع أداء الملك لاستطلاع رأي المواطنين، فيه مسّ بقدسيّة المؤسسة الملكية وبهيبتها.
في نظري، القضية أعمق من وجود فراغ قانوني ينظّم عملية استطلاعات الرأي. فقد نظّّّّّّّّّّّّمت مؤسسات علمية وتجارية وإعلامية ومراكز بحثية العديد من استطلاعات الرأي، وتم نشرها ولم تثر حفيظة السلطة إلى درجة المنع والحجز.
ولذلك أتصور أن الأصل في استطلاعات الرأي أن لا تخضع لأي قانون، اللهم إلا إذا تعلق الأمر بميثاق أخلاقي بين المعنيين لوضع ضوابط تمثل الحد الأدنى من القواعد «العلمية»، وتؤسس لتقاليد مهنية في التعاطي مع تقنية الاستمزاج أو سبر الرأي، لأنه لا يمكن تصور قانون يحدّد لائحة الظواهر الاجتماعية والسياسية القابلة للتحليل العلمي والبحث الاجتماعي، ويحدد قائمة الظواهر الاجتماعية الممنوعة من الفهم والتحليل عن طريق البحوث الميدانية، ومنها استطلاعات الرأي. ولذلك أشاطر التخوفات تجاه مسوّدة مشروع قانون لتنظيم استطلاعات الرأي، الموجود في رفوف الأمانة العامة للحكومة والذي جاء في سياق سياسي خاص على أثر نشر بعض استطلاعات الرأي التي أعطت لحزب «العدالة والتنمية» المرتبة الأولى قبيل الانتخابات التشريعية لعام 2007. وقد جاءت مضامينه محكومة برؤية تروم التضييق والمنع أكثر من وضع ضوابط تفيد الباحثين في الفهم والتحليل واستقراء آراء الناس تجاه مختلف الظواهر الإنسانية التي تتطلب الفهم والتحليل.
لنعد إلى السبب الحقيقي الذي كان وراء حجز المطبوعات المذكورة ومنعها. يتعلق الأمر بمحاولة لتقييم حصيلة أداء الملك بعد مرور عشر سنوات من اعتلائه العرش، ومعرفة آراء المواطنين من خلال عيّنة «تمثيلية» تتكون من ألف مواطن، بواسطة استمارة علمية، تم تفريغ نتائجها استعانة بالمنهج الإحصائي لتكشف عن الأرقام القابلة للتوظيف والاستدلال عند الحديث عن رأي المواطنين في ملكهم. وقد جاءت النتائج على العموم إيجابية حيال الملك وأدائه السياسي، فأين تكمن المشكلة؟
المحافظة على هيبة الملكية، وتفويض السلطة لمن يمكن محاسبته
تكمن المشكلة في طبيعة النظام السياسي القائم على أساس ملكية تنفيذية تسود وتحكم وتملك كل السلطات التي تجعلها تمارس اختصاصات عديدة في مجالات مختلفة وتتخذ قرارات حاسمة يومياً. لكنها في الوقت نفسه لا تخضع للمراقبة ولا للمحاسبة من الناحية المؤسساتية. فالبرلمان هو المؤسسة المخوّلة نظرياً بمراقبة السلطة التنفيذية، لكنه في الخبرة المغربية، لا يراقب الأداء التنفيذي للمؤسسة الملكية، ولا يخضع الخطب الملكية للنقاش، وليس له حق الاعتراض على قرارات القائم على العرش، ولا تخضع ميزانية البلاط للمناقشة البرلمانية، ولا تخضع لمراقبة مجالس الحسابات. كذلك فإن الملكية التنفيذية في المغرب لا تريد أن تكون في يوم من الأيام موضوعاً للتقييم أو النقد.
ذلك أن التقييم قد يكون سلبياً وقد يكون إيجابياً، ومن يمارس السلطة تكن ممارسته معرضة للخطأ والصواب، والتقييم السلبي يستوجب المحاسبة، والمحاسبة قد تستوجب إيقاع الجزاء والعقوبة، وهذا ما لا يريده دعاة الملكية التنفيذية في المغرب، ولا يريده الديموقراطيون أيضاً.
يدفع دعاة الملكية التنفيذية في اتجاه مركزة جميع السلطات في يد المؤسسة الملكية ويدفعونها للممارسة اليومية المحفوفة بالأخطاء والمخاطر أيضاً. وهم بذلك يعرضون هيبتها و«قداستها» يومياً للتقييم والمحاسبة التي تتم علنياً بواسطة الصحافة الوطنية والدولية، وتتم ضمنياً في أذهان المواطنين الذين، حتى لو لم يفصحوا عن آرائهم بكل حرية، يمكن أن يعبروا عن ذلك بطرق غير عقلانية لا يمكن التنبؤ دائماً بتفاصيلها.
أمّا الديموقراطيون، فيريدون أن يحافظوا على هيبة المؤسسة الملكية محافظة حقيقية، وهم يصونون موقعها الاعتباري عن كل امتهان، ويدافعون عن السموّ بها عن المحاسبة والتقييم، ويناضلون من أجل تفويض السلطة لمن يمكن مراقبته ومحاسبته، بل إيقاع العقوبة والجزاء به أيضاً في حال خطئه في ممارسة السلطة.
إن الملك لا يخطئ في النظام الديموقراطي، لأنه بكل بساطة لا يمارس السلطة. أما ممارسة السلطة في التصور الديموقراطي، فلا يمكن إلا أن تقترن بالمراقبة والمحاسبة والجزاء. وأما السلطة التي تمارس بعيداً عن الرقابة المؤسساتية والشعبية، فلا يمكن أن تكون إلا شكلاً من أشكال الاستبداد والسلطوية.
إنّ النقاش الحقيقي الذي بات يفرض نفسه اليوم، هو كيف نجعل من المؤسسة الملكية مؤسسة فوق النقد والتقييم، وفي الوقت نفسه نجعل من نظامنا السياسي نظاماً ديموقراطياً حقيقياً؟
كيف يمكن أن ننأى بالمؤسسة الملكية عن التدخل في التفاصيل اليومية وفي اتخاذ القرارات التنفيذية التي تستجلب لها النقد والتقييم، وفي الوقت نفسه نضمن لها هيبتها وموقعها الاعتباري والرمزي الذي لا يمكن الديموقراطية المغربية أن تنهض بدونه؟
إنّ نموذج الملكية التنفيذية يوجد اليوم في مأزق. فإما أن نختار التحول التدريجي إلى النموذج الديموقراطي الذي يمزج بين الملكية كمرجع للتحكيم في القضايا الخلافية الكبرى، وكرمز لوحدة البلاد، وكضامن لممارسة الحقوق والحريات، أو يستمر النموذج القائم في إعادة إنتاج نفسه بأشكال سلطوية مختلفة، ستكون لا محالة في احتكاك متجدد مع ممارسة العديد من الحقوق والحريات الأساسية، ومنها حق المشاركة السياسية، وحق تقييم أداء الحاكم ونقده ومراقبته ومحاسبته ومعاقبته.
* باحث وعضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية في المغرب