تعقد هيئة المناصرة الأهلية لمخيم نهر البارد، الحادية عشرة صباح اليوم في مخيم البداوي، مؤتمراً صحافياً لمناسبة الذكرى الثانية لحرب البارد. ويتناول المؤتمر، إضافة إلى موضوع تأخير إعادة الإعمار في الجزء القديم من المخيم، ثلاثة موضوعات أخرى تتعلق بإجراءات الدخول والخروج وانتهاكات حقوق الإنسان على الحواجز العسكرية ومنع الإعلاميين من دخول المخيم
راجانا حمية
«يسمح الزعيم الأول، قائد الجيش، للاجئ أحمد حسين يماني بالخروج من المخيم لزيارة أقاربه في بيروت، وذلك اعتباراً من الساعة 6 حتى الساعة 19».
كتب ذلك في تصريح صادر عن الشعبة الثانية بقيادة أركان الحرب (الجيش) ومؤرخ 20شباط 1962. كأنه اليوم، مع اختلاف مسميات الجهة التي تُصدر التصاريح. عند حاجز العبدة، أحد المداخل الخمسة الرئيسة لمخيم نهر البارد، يصبح صعباً تحديد هوية مخيّم استحال «معسكراً» لألوية الجيش اللبناني. عسكر في كل مكان: في بيوت الجزء الجديد التي لم تُسلّم بعد، وعلى كامل مساحة الجزء القديم التي لا تزال تحت «حكم» مهمة أمنية لا تبدو نهايتها قريبة.
أما اللاجئون، أبناء المخيم المقلوب رأساً على عقب، فلهم علاقة تكاد تكون «عائلية» مع العسكر. فهؤلاء يحتاجون إلى ترخيص عسكري للدخول إلى... بيوتهم. ورقة صغيرة، ولكن من دونها قد يبيت اللاجئ خارجاً، حفاظاً على أمنه بطبيعة الحال. تشبه هذه الورقة «رخصة التجوال المؤقت» التي منحها الزعيم الأول ليماني ذات يوم، مع فارق أن لقب الزعيم تغير وأصبح له اسم: «قائد منطقة الشمال» فلان الفلاني.
وللتراخيص «سنسولة». فالحرب قسمت البارد إلى جزءين: أول أسماه الجيش المنطقة المحاذية للبارد القديم، يدخله اللاجئون بترخيص يشبه بطاقة التعريف التي تمنحها إياهم «الأونروا»، ويتضمن تفاصيل محددة منها الاسم ورقم القطاع الذي يسكنه والصفة (غالباً ما تكون سكناً)، فيما لا يستطيع الزوار «الغرباء»، الدخول إلا ببعض تحايل. أما الجزء الثاني فهو البارد القديم نفسه، المغلق تماما لأنه منطقة عسكرية، والذي يصعب الدخول إليه حتى لسكانه الأصليين إلا بعد تحقيق. وهو على كل حال لا يُمنح اليوم سوى للمشرفين على إعادة الإعمار، أما الإعلام، الذي لم يستطع إلى الآن نقل الصورة الحقيقية عن حياة الجديدة، فهو ممنوع منعاً باتاً.
عند مداخل البارد، يسترجع أبناء المخيّم حكايات قاتمة عن «الانتهاكات» بحقّهم. فعلاقتهم مع العسكر «باتت لا تطاق»، بحسب ما يشير عضو الجبهة الشعبية في المخيم عماد عودة. ولئن كان عودة جريئاً في ذكر اسمه، إلا أن الكثيرين لم يجرؤوا على الاحتذاء به خوفاً من منعهم الحصول على تراخيص دخول بيوتهم.
حوادث كثيرة حصلت عند تلك الحواجز في الآونة الأخيرة، كانت تتزايد حدة مع التوترات الأمنية، منها على سبيل المثال، حادثة «نبش المساعدات الرمضانية». يشير أحمد (اسم مستعار) إلى أن عنصرين من الجيش اللبناني عند حاجز العبدة أنزلا حمولة «البيك أب» أرضاً، حتى أن أحدهما نبش بعض أكياس الخيش «ووصلت الأمور معه إلى فتح علب قمر الدين!».
ليس هذا وحسب، يتذكر عبد الرحمن وقوفه وأطفاله بأجسادهم المبللة بالعرق تحت أشعة الشمس ساعتين «من دون أن نعرف السبب». يومها، صادف فرار أحد موقوفي فتح الإسلام من سجن رومية. كان الحاجز يعج بالمنتظرين. يذكر عبد الرحمن، الذي كان من بينهم، طلب العسكري منه الدخول سيراً على الأقدام، «وهذا يعني رياضة قاسية لطول المسافة»، وإلا البقاء «في الحافلة محجوزين».
أما الحادثة التي صبت الزيت على النار، فكانت حادثة «حافلة أطفال المخيم الذين كانوا يجرون حواراًَ مع اللبنانيين في بلدية عكار». ولحظة عودتهم، أنزلهم الجيش 3 ساعات لتفتيشهم. ويشير المدير العام للجمعية الفلسطينية «حقوق»، غسان عبد الله، إلى أن «تصرفات الجيش كانت مرعبة للأطفال، إذ حمل عناصره أسلحتهم وهم داخل الحافلة». وقد دفع ذلك هيئة المناصرة الأهلية إلى عقد مؤتمرها الصحافي اليوم. أما الهدف؟ فسرد مفصل لانتهاكات العسكريين.
ولئن كانت قيادة الجيش قد أعلنت في 22 آذار الماضي عن خطة «لتغيير نمط الإجراءات الأمنية بعد عامين من التشديد على مداخل البارد»، إلا أن ما يجري بعد 6 أشهر على التعميم أثبت أن شيئاً لم يتغير، بحسب الأهالي. بل «زادت هذه الإجراءات إلى درجة اليأس من إمكانية التغيير»، بحسب ما يشير أحد سكان المخيم، أحمد أبو جميع.
لكن، على عكس ما يراه أبو جميع، يبدو أن الحال تتغير، لكن إلى الأسوأ. إذ يفيد عضو «لجنة شعبية ما» في المخيم «بأن القيادة أرسلت إلينا منذ شهر ونصف تعميماً مفاده أنه يتوجب إضافة تفصيل جديد إلى الترخيص، وهو رقم سيارة الداخل إلى المخيم». غير أن هذا التعميم أقام الدنيا ولم يقعدها، ما اضطر القيادة إلى إرجائه.
أكثر من ذلك، يصف البعض تعامل الجيش مع الأهالي كأنه مع «أعداء مهزومين» في معركة! وكما هي حال المهزومين، يحتاجون إلى وقت طويل قبل أن يسمح لهم بالعودة إلى بيوتهم، ومن خلال ممر إلزامي وترخيص والوقوف في الطابور عند الحاجز.
لا يبدو أن أحداً يحبذ هذا الوجود العسكري. يخشون أن يغدو على صورة ذاك «المحتل» الذي يعبث بذاكرتهم. ليس هجوماً على الجيش ولا عناصره المحكومين، بطبيعة النظام العسكري، تنفيذ الأوامر المطلوبة منهم، بل هو شعور السكان من اللحظة الأولى لعودتهم إلى بيوتهم بعد انتهاء الاشتباكات. حين وجدوا عبارات عنصرية بذيئة مخطوطة على الجدران، ومذيلة بتوقيع «اللواء الخامس» الذي كان البارد محظوراً إلا على عناصره خلال الحرب والأشهر الأربعة التي تلتها. أضف إلى ذلك، فضيحة «الثياب الداخلية للنساء التي وجدت معلقة على حبال الغسيل» وقد كتب على جدار بجانبها «من أين لك هذا يا فلسطيني؟»، وعبارات لا يمكن إيرادها هنا لعنصريتها المخيفة، وخصوصاً إذا تخيل الإنسان صدورها عن عناصر جيش نظامي! وحكاية المرأة التي كانت تحمل طفلها، والتي نزفت عند حاجز العبدة بعدما ضربها مسؤول الأمن بالحائط، لأنها تأخرت نصف ساعة عن موعد حظر التجوال! والولد ذو الثماني سنوات الذي نام في النظارة بتهمة إرسال السلاح إلى «إرهابيين»، لأنه كان يجمع بقايا الرصاص وحديد الأعمدة ليبيعها. وإلى هذا كله، تضاف حملات «تفتيش الأموات» أو توابيتهم الوافدة للدفن، والتي لم تعد حكراً على البارد، فتوسّعت لتطال عين الحلوة وربما اليوم البداوي.


ترخيص وغرامة