لم توفّر «لوثة النظام» أحداً في لبنان، حتى تلك الأحزاب العقائدية التي نشأت على شعار تغيير النظام. حزب بات منذ عقدين «بوقاً» لجوقة الممانعة في مقابل نيله حصته في النيابة والوزارة، وآخر، وهو شيخ الأحزاب اللبنانية، أصبح ينتظر النائب وليد جنبلاط لينقلب مجدداً على مواقفه، لكي يهلّل للحدث الكبير
رائد شرف *
يبدو جبروت النظام المهيمن شبه مطلَق في لبنان، حيث ما لبثت أن انتهت مرحلة تاريخية أُشرك فيها الناس بأمور السياسة إلى أقصى الحدود «الإحصائية»، حتى دخلت البلاد، على ما يبدو، في دوامة «انحدار» في الخطاب السياسي، على ما يذهب إليه بعض المعلقين، نجومه «الصهر» و«الصائم» و«المتقلب». وكيف لا يصح ذلك، بينما بعض أشدّ منتقدي النظام لا يعرف أن يميز بين الحجج الواهية المضيعة للوقت، في منطق النظام نفسه، وبين حججه المتينة، بالرغم من سطحية الأخيرة النسبية؟ إذ يبدو أن «معضلة توزير جبران باسيل» قد أغوت أغلب المعلقين، حيث باتت تحصل أقله على نكتة خاتمة أو مقدمة عندما لا تحصل على مقال كامل ذي نفحة تصحيحية (هذا لا يعفي عون من مسؤولية العائلية السياسية على صعيد حزبه). ولا يغفل على العين أنّ النظام اللبناني استطاع على صعيد الطبقة السياسية، على نحو شبه كامل، أن يفرض نظرة تبسيطية للسياسة وللمجتمع، لا تأخذ

أصبح القومي اليوم من أدوات «النظام»، يكسب مقاعده النيابية في إطار محادل القوى المهيمنة

بالتاريخ حسباناً، ولا حتى بأبسط قراءة أخلاقية للمجتمع في بعض الأحيان. باختصار، لا تأخذ بأي «ثابتة» منطقية يبني المجتمع عليها علاقة محاسبة. ولكن ذلك لا يعني أنه ليس للنظام ثوابت، ولا يعمل ضمن أطر قراءة ثابتة. فالنظام قبل كل شيء، يبدو لرجاله كساحة فيها من الإمكانيات، كما فيها من الممنوعات، ولهم على أساسها مواقعهم. أي في النظام كثيرٌ من الثوابت اللاأخلاقية والمنافية لطريقة تقديم نفسه للمجتمع، التي يعمل النظام على إخفائها عبر طمس قراءتها. وقد تكون المواقع الحزبية العقائدية أحد أبرز ساحات هذا «الطمس الرمزي» لقراءة منطق النظام: حيث إن اسم هذه الأحزاب مستوحى من اقتنائها قراءة للمجتمع على أسس ثوابت، بينما سلوكها يبدو الأكثر تواطؤاً مع النظام، وذلك لقاء أبخس سعر. وليس ترحيب قياداتها بعودة وجه النظام القبيح، مجرم الحرب المثقف، إلى «رشده» وإلى «العروبة وفلسطين» إلا حلقة صغيرة من مسيرة الأحزاب العقائدية الحالية نحو الفناء.

مقارنة تاريخية إن صحّت

يمكن التمعن في أوجه مأساة الأحزاب العقائدية الحالية في النظر إلى سلوك الحزب السوري القومي الاجتماعي مثلاً، في تجاوبه مع الظروف الحالية، مقارنةً مع تجاوبه مع ظروف أزمة ١٩٥٨.
أوجه الشبه بين الأزمة الحالية وأحداث ١٩٥٨ كثيرة. ما ينذر، ربما، بتطورات اجتماعية مماثلة كالتي حدثت سنة ١٩٧٥ مثلاً. في تلك المراحل، انقسمت الطبقة المهيمنة والتقليدية، أي الطبقة الحاكمة المهيأة للمساومات وذات التاريخ الزاخر بالصفقات والقارئة للسياسة من منظار المحاصصة، ثم ما لبثت أن اتفقت في تقاسم المهمات في ما بين أكثر أعضائها تناقضاً في مرحلة العنف، أي الموالين لحكم شمعون ومعارضيه. في تلك الظروف، كانت مسألة «الشرعية الشعبية»، في لعبتها الانتخابية، محوراً من محاور النزاع الأساسية، وهو ما كان عليه وضع «موقع لبنان في المنطقة».
وبغضّ النظر عن موقف الحزب السوري القومي المتحالف مع الكتائب في تلك الأيام، كانت المفارقة في تعاطيه مع الصفقة التي عقدت تحت راية قائد الجيش آنذاك فؤاد شهاب. صفقة كادت تجمع كل أعضاء الطبقة المهيمنة. لم يكن لبنان وسخافة لعبته السياسية ليسَعَ المناضلين القوميين الاجتماعيين: فالحزب كان يقف في موقع نقيض للمجتمع السياسي اللبناني، وذلك منذ تأسيسه. أما الآن، فقد أصبح من أدوات «النظام»، يكسب مقاعده النيابية في إطار محادل القوى المهيمنة عربون مشاركته لها في العمل الدعائي والتعبوي. والحزب السوري القومي الاجتماعي تخصص منذ التسعينيات، إن لم يكن من قبل عند بعض أجنحته المسلحة، في القمع «الوسخ» لمصلحة القوى المحافظة المهيمنة (لا نعني هنا صفحات البطولة عند مناضليه ضد الوجود الإسرائيلي في لبنان في بيروت وفي الجنوب). حصل ذلك في المهمات التي لم تكن القوى المهيمنة لترضى بها لنفسها، في منطق دعايتها الشعبية. طبعاً، هذه الوظيفة لم تكن حكراً على الحزب القومي. بيد أنها كانت وظيفة لها جذورها المختبرة وهي تعني ميليشيات الحرب بأول درجة، ولها مردودها في حصص النظام. وقد شاركت الكثير من الأحزاب في العمل التعبوي مثل الانتخابات (النيابية والنقابية) والتظاهرات، ليس لدعم برنامج خاص بالمناسبات التعبوية، بل للحصول على وزارة العمل، أو الزراعة، أو الشؤون الاجتماعية... حتى أنّ مرحلة الجمهورية الثانية امتازت بنفوذ رفيق الحريري السياسي، من دون أن يرى الأخير أنه من الضروري إنشاء حزب جماهيري يدعم هذا النفوذ، ربما لأنه لم يشعر بالضرورة في ذلك: فاللعبة السياسية تؤمن له ما هبّ ودبّ من القوى السياسية التجييرية المستعدة للنزول إلى الشارع لموازاة المظاهر المعترضة ولإسباغ حكم حكوماته «الثلاثينية» بالشرعية. وقد يكون نتج من تلك الممارسات السياسية، لبعض الأحزاب المكتفية بالانضواء تحت رايات سياسية لقوى خارجة عنها، تبسيطاً كبيراً للثقافة السياسية عند هذه الأحزاب. وما حلقات زياد نجيم ومارسيل غانم المستضيفة لممثلي «طلاب الأحزاب»، إلّا إثبات على نهج إنتاج هذه الأحزاب للأزلام، رجال النظام ولعبته السياسية والإعلامية، المحترمين لهرمية النظام، ودعمها الأزلام المقلدين للكبار بين طلابها، على حساب الطلاب الحزبيين الآخرين. فنرى الطلاب يكررون مجادلات كبار حزبهم على النغم نفسه الذي يدعي العفوية، إذ يفاجأ بعضهم بآراء بعضهم الآخر وكأنه لم يعاشر الآخر في الجامعات، مبيّنين ميل أغلبهم في إتقان اللعبة السياسية في شقها الكلامي المبسَّط، كما في شقها الدعائي التسويقي للذات... على حساب المنطق.
طبعاً نتج أيضاً من هذا التمحور الحزبي، في موضوع الأحزاب العقائدية، تسخيف لعقيدتها عند الجمهور العام وربما عند عناصر هذه الأحزاب، قد يكون أكثر مشاهده مأساويةً عندما يستشهد طلاب الحزب التقدمي الاشتراكي التلفزيونيين «بإرث المعلم» كمال جنبلاط.
هكذا ذهبت بعض مصداقية الحزب السوري القومي في راديكاليته ــــ الضرورية ــــ سداً، وذلك في إحدى أهم ساحات إنتاج الراديكالية وتمحورها، وحيث كانت تجري العادة بالاستفادة مما تبتكره الراديكالية: الجامعات. وهنا يطرح السؤال عن الظروف التي سمحت في لبنان ببروز تنظيم مثل «منظمة العمل الشيوعي» في مرحلة ما، وكان فيه الشباب «الدبيكة»، قيادي ومنظر وانشقاقي بفعالية إن أراد، مقارنةً بالظروف الحالية ذات الآفاق المغلقة، والتي جعلت مأساة طلاب بعض الأحزاب في تمسكهم بمجموعة خيم «الحرية» في ساحة الشهداء، وقد بدا مشهد الحزن على وجوههم على شاشات التلفزة يوم «رفع الخيم». وتجربة المخيم تكاد تكون من مظاهر العمل الطلابي «المستقل» القليلة ـــــ بعكس ما تذهب إليه بعض التحليلات الصحافية التبسيطية في «خندق الممانعة» ـــــ في السنين الماضية، ولو لمصلحة الطبقة السياسية المهيمنة.
طبعاً يجدر التنبيه في موضوع القومي الاجتماعي وغيره، ومنعاً للالتباس، أن هذه السير الاجتماعية لا تختصر معظم أوجه «الحياة الحزبية الطلابية». وأغلب الظن، في موضوع التزام الأفراد بأحزاب عقائدية في محيط اجتماعي لا يعطي العقيدة حقها وللأفراد العقائديين قيمتهم، أنّ صفات الجدية السياسية عند بعض هؤلاء تفوقها عند غيرهم... إلى حدود التضحية. أما تحوير مسار الحزب في الاتجاه التبسيطي للعقيدة ولقيمة العمل السياسي، فتتحمل القيادة الميليشيوية للحزب كامل المسؤولية عنه. ليس فقط في الشق الطلابي: فهل كان من المعقول أن يرحب القوميون الاجتماعيون «بعودة وليد جنبلاط إلى رشده» لو أن قيادة الحزب متجددة فعلاً ومنبعثة من تطور قاعدة الحزب الشعبية؟
كذلك الأمر بالنسبة للحزب الشيوعي اللبناني. فهو كالحزب القومي يلعب لعبة النظام، لعبة الطبقة السياسية المهيمنة، في تقسيماتها «شبه الوهمية» للشعارات السياسية التي تختار أن تناقشها وأن تبني مواقفها عليها على حساب غيرها من الشعارات. وهي شعارات شبه «وهمية»، بغير أغلب عادات العالم الاجتماعي، لتناقضاتها الداخلية كما لكثرة ابتذال استغلالها ولظهورها فجأةً وكأنها جاءت من عدم: كيف نفسر بغير ذلك «اعتراف» البطريركية المارونية المستجدي بأن «المصالحة في الجبل» لم تحصل؟ ما هي تلك «المصالحة في الجبل»، ذلك الشعار، الذي يستند إليه أركان النظام؟ ولا نتحدث عن «عروبة» البطريرك الانتخابية.
أما الحزب الشيوعي، فيسهل عليه وعلى الحزب القومي انتقاد «الانعزال» عند فريق «اليمين» في المنطقة الشرقية، والترحيب بجنبلاط، والتغاضي عن «قوة حزب الله المحافظة»، واحتواء حزب الله للفقراء في المسائل الداخلية تحت رايات الشرف والكرم و... «الطهر»، بينما لا يغفل على أحد أن جمهور حزب الله على استعداد لقلب تاريخ المجتمع السياسي اللبناني والعربي والإسرائيلي رأساً على عقب، نحو المزيد من العدالة الاجتماعية، إن تيسر له ذلك. كذلك الأمر بالنسبة لجمهوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي. لكنّ مسؤولاً قيادياً «توافقياً» في الحزب مشغول في التباهي، في حلقة تلفزيونية على قناة «الجديد»، بعلاقات الحزب الشيوعي الوثيقة بالحزب التقدمي الاشتراكي، وذلك، يصر المسؤول، منذ الستينيات! هذا ولا يتوانى بعض الأقلام اليسارية أن تقارن بين كمال جنبلاط ووليد جنبلاط، وكأن الوراثة السياسية استمرارية لشيء غير الامتيازات، على أسس تسطح تاريخ لبنان المعاصر على نحو شبه جوهري يرى ثبات الطوائف والعصبيات على مر السنين. وهنا ربما ينجلي صلب الموضوع: استواء المواقف اليسارية على نظرات محافظة للمجتمع اللبناني. محافظة لأنها تستر ما في المجتمع من «تحول» بما فيه تحول المواقف اليسارية من مواقف راديكالية إلى مواقف «مؤدَّبة»، متصالحة أو متسامحة مع بعض الأوجه المحافظة للنظام.

مجتمع سياسي مؤدب

يبرز المثل التلفزيوني عن المسؤول القيادي المنتفخ في صداقته مع جنبلاط، أحد أسباب العلاقة بين الحزب الشيوعي اللبناني والسياسة الجنبلاطية. هي علاقات تكاد تبدو «شخصية» لكاريكاتوريتها، لكنها من دون شك تعني القيادي وتشمله هو، ومن يحمل بعض صفات «شخصيته الاجتماعية». هذه الصفات تعني من عاشر كمال جنبلاط ووليد جنبلاط في أيام «الحركة الوطنية» أو أقله من عاش أيام الحركة «البطولية». لمنع الحصر، هو بعض من جيل عاش العمل السياسي في مرحلة الستينيات والسبعينيات. وأغلب أعضائه يحصدون جل مقومات نفوذهم الاجتماعي (سياسي، صحافي، أو ثقافي) من هذه المرحلة، حيث إنها المرحلة الأخيرة التي حملت إلى الساحة السياسية اللبنانية المهيمنة عدداً مهماً من العناصر الجديدة. يستثنى منهم فريق قيادة حزب الله وإعلامه، الذي يبدو لبعض عناصر هذه المجموعة كـ«مجتمع نقيض» ربما لمجرد أن أبناءه ليسوا «رفاق قياديين سابقين» (ولأسباب عنصرية طبقية أيضاً). هناك ديناميّات في المجتمع السياسي، ومنطق مرافق لهذه الديناميّات، لا تفهم من دون العودة إلى شبكة العلاقات السياسية التي نسجت في لبنان، وبالأخص في مجتمع بيروت الغربية «التعدّدي»، في تلك الأيام التي سبقت الحرب. ما الذي يفسّر على سبيل المثال، على الأرض الاجتماعية، التهليل الذي يلاقيه ترشيح جان عبيد لرئاسة الجمهورية من البعض وتسويقه الشغوف عندهم وهو ليس عنده ولو مدونة خاصة على الإنترنت؟
منطق العلاقات والمعاشرة يفسّر أيضاً ترشيح إميل رحمة في كتلة حزب الله، حيث لا يمكن أن يكون حصول رحمة على أكبر عدد من الأصوات دليل شعبية تفوق تلك التي لحزب الله في بعلبك الهرمل. والحالتان (عبيد ورحمة) تمثلان دينامية خاصة بالمجتمع السياسي المهيمن، ولو أن الحالة الثانية ليست خاصة بتاريخ «بيروت الغربية» (بل بتلاقي «الغربية والشرقية» تحت المظلة «العنجرية» الجامعة). دينامية جل توجهاتها هي فرض أمر واقع سياسي على الشعب من فوق، بمظاهر رمزية «مقبولة».
وهذه المجتمعات الخاصة بالطبقة السياسية اللبنانية هي من يصادر قيادة الأحزاب اللبنانية، بدعم وتشجيع من القيادة السورية في بدايات تمركزها على حساب غيرها من قيادات الأحزاب نفسها. وهي التي تمنع تحول أحزابها منصة صعود سياسي لفئات جديدة في المجتمع ذات المطالب المتجدّدة، أقله على الصعيد الحزبي. فعلى الصعيد الحزبي، تبدو جلياً المسافة بين ما تصرح به قيادة الحزبين، وعقيدتهم المسوقة عند نشطائهم، بما هي حقيقةً المسافة بين مواقع هذه القيادات الحالية مع مواقع أحزابها التاريخية التي عليها بُنيَت في الأصل قاعدتها الشعبية. كما هي حقيقة تُظهر الدور التجييري الخاص لهذه المواقع القيادية، بدل الدور الفاعل في السياسة على جميع الصعد، كما يتوقع البشر من أحزابهم أن تملأ حياتهم في مقابل ملئها بحياتهم. ولا تكتمل سيرة هذه المسافة بين القيادة والنشطاء من دون العودة إلى سيرة التحول الذي طرق عند هذه القيادات، ووليد جنبلاط منذ وفاة والد الأخير. وهي سيرة تأديب وتطويع. فمن الواضح مثلاً، على صعيد معياري إن صح التعبير، أنّ لبعض الأحزاب اللبنانية، إن لم يكن لجميعها، تناقضاً بين طموح قيادتها وطموح عناصرها ومؤيديها. والطموح هنا يعني سقف المطالب السياسية، بغض النظر عن كبر الإمكانات والإنجازات. فأنطون سعادة مثلاً، كتب ودعا ــــ بسهولة قد تفاجئ الآن ــــ لاستحصال روافد نهري دجلة والفرات، كما أنه أثبت روح تضحية في مناسبات عدة وجدية في الممارسة السياسية لا نظنها تتوافر عند قيادة القومي الحالية.
وكمال جنبلاط مثلاً، بمطالبته بلبنان اشتراكي ومقاوم، كان طموحه أكبر من السيد نصر الله، المكتفي بالمقاومة. وهذا لا ينتقص من جدية الأخير وصدقه، فمسألة الطموح ليست بالضرورة بالتجاوب مع «وعي» للظروف الموضوعية للشخص الطموح. غير أن الظروف الموضوعية هي، في معظم الأحيان، التي تفتح دروب الطموح وتبعث به عند الشخص. فأغلب الظن أن حزب الله، في الواقع الاجتماعي للبنان سنة ١٩٧٥، ما كان ليرتاح قبل إنشاء ظروف تأطير إسلامي لكل المجتمع على شكل الدولة الإسلامية في إيران (وهكذا كانت عقيدة الحزب في بداياته في الثمانينيات). أي ليكون، لنستعر كلماته، «حزباً ثورياً». أما أنطون سعاده، فهو ينتمي لزمن

القيادات الحزبية العقائدية مصادِرة لمراكز غيرها ممن لا يحسب نفسه معنياً بمسامحة مجرمي الحرب والمال
كانت فيه الساحة الثقافية والسياسية العربية، بالرغم من مساوئها، على استعداد أكبر لتلبية حاجات المجتمع العربي المعرض للاستعمار ولقضايا شعبه المضطهد. وها هو العراق الآن، يموت من العطش، وماذا يفعل حزب الله سوى إرسال التعازي إلى العملاء الطائفيين للاستعمار؟ طبعاً هناك دائماً من التطبيليين من يقول إن المقاومة تعمل في السر وأن «التنظير سهل» بينما الشعب يموت من الجوع ومن شر الأنظمة ورأس المال.
الزمان تغير، وحيث كانت الأيديولوجيات تكتب بغزارة ولو ليس بإتقان يوازي رديفتها الأوروبية، أصبح انتقاد الأمر الواقع بأبسط أشكال ظلمه من «التنظير» الذي يسهل قمعه ولو بالسخرية أو باللامبالاة. ويتساءلون كيف يلجأ بعض الشباب إلى الحركات الجهادية ويقطعون صلة الوصل مع مجتمع ليس مسموحاً أن ينجلي منه سوى بيانات التضامن مع القوى المهيمنة. وهنا لا يغفل على أحد أن التحول الذي حصل في عدد من قيادات الأحزاب العقائدية، أتى نتيجة منظومة سياسية تأديبية عملت على تثبيتها السعودية والنظام السوري. منظومة ذات منفعة على الصعيد الداخلي لقيادات الأمر الواقع خلال الحرب، ولرفيق الحريري، الذي أدّى الدور الأول في احتواء الرفض والنقد الشعبي والتحولات الاجتماعية الشعبية، أقله على المستويين الرمزي والاقتصادي، مع انتهاء الحرب، عبر صبغه ميليشيات الحرب بحلة «الإعمار». وقد لاقى نتيجة ذلك دعماً وتأييداً من قادة الميليشيات كافة، ومن النظام الفاسد في الشام... ومن قيادة «القومي». أما ارتخاء قيادة الحزب الشيوعي، وانكفاؤها وراء تناقضات النظام الرمزية، من معارضة ببغائية للطائفية، فلا يفسرها إلا التأديب الرمزي كما الجسدي الذي لحق بالحزب وبساحات الرأي في المجتمع عامةً، وصولاً إلى المنظومة السياسية الرمزية الحالية.
إذاً، المنظومة السياسية الرمزية الحالية، هي نتيجة تطور تاريخي ذهب ببعض قيادات الأحزاب السياسية القديمة والجديدة، نحو التصالح مع لعبة سياسية لها من الشعارات ولها من المضامين الفكرية والمنطقية ما يتماشى مع أمرها الواقع، أمر النظام. هي لها رجال، هم أصحاب الرأي، وباتوا مراجع تقليد لأجيال جديدة، تؤمّن للنظام استمراريته. رجال المنظومة الرمزية، رجال النظام، جاؤوا على حساب غيرهم، وبعضهم على ظهر غيرهم من القيادات. وجلهم على ظهر تطلعات نشطاء أحزابهم، كما تبرزه حالات الأحزاب العقائدية.
أما على المستوى الشعبي غير الحزبي، على مستوى التنشئة الاجتماعية التي تفرضها مؤسسات النظام عن طريق الإعلام، فقد تكون إحدى أخطر نتائج المنظومة الرمزية الحالية، هي عندما يذهب بعض الجدّي من المضمون الذي تجنده هدراً لمصلحة تثبيت المواقع السياسية. مضمون كان في الماضي من شعارات بعض أقطابها الجدّي، فما زال يتأتئ به عن عادة. فيجري تسخيف القضية الفلسطينية مثلاً عند سكان «المنطقة الشرقية» على حساب تناقض لبناني لفريق لبناني محض مع الأحزاب السياسية ذات الشعبية في المنطقة الشرقية. إذ يبدو عند بعض اليسار، وذلك منذ التسعينيات، أنّ أحزاب المنطقة الشرقية وحدها تستأهل التنديد القاسي والإلغائي بمواقفها. وكذلك الأمر للمنطق النقدي اليساري، بتفرّعاته الاقتصادية والاجتماعية، أو حتى للفكر القومي الاجتماعي، بما تحمله هذه المنطلقات الأيديولوجية من تسليط للأضواء على مسائل اجتماعية ملحة، تعني المواطنين أولاً من دون الطبقة السياسية. وربما في هذا المجال، تنجلي حقيقة مواقع القيادات الحزبية العقائدية بما هي مصادرة لمراكز غيرها ممن لا يحسب نفسه معنياً بمسامحة مجرمي الحرب والمال على جرائمهم... قبل الذهاب إلى الترحيب بعودتهم إلى رشدهم.
* باحث لبناني