يواجه بعض الجنوبيين ثغراً أو أسئلة تتعلّق بعمل الجسم القضائي، بعضهم لا يدرك ضرورة التوجّه إلى هيئة التفتيش القضائي، آخرون لا يؤمنون بجدوى الشكوى، الأهمّ أن قضاة الهيئة يكتفون بزيارات قليلة لمراقبة عمل المحاكم
سوسن بدران
«مرة أو مرتين في السنة على الأكثر يقوم قضاة هيئة التفتيش، وخلال يوم واحد فقط بزيارة المحكمة والتجوال بين أقلامها، لتصفّح دفتر دوام الموظفين، والاطّلاع على دفاتر التبليغات، ومراقبة الملفات القضائية والأحكام، ومن ضمنها مدة التأجيل بين كل جلسة قضائية وأخرى، والمدة الزمنية التي يستغرقها صدور الأحكام القضائية، ولكن المهمة تبقى ضمن ما يمكن تسميته «فلفشة» أوراق»، هذا هو باختصار دور هيئة التفتيش القضائي في مراقبة حُسن سير القضاء في كل من قصرَي عدل النبطية وصيدا، والكلام جاء على لسان مسؤول من وزارة العدل، الذي يؤكّد «أن أكثر ما يمكن أن تُفضي إليه هذه المراقبة هو إعطاء ملاحظات عن ثغر في عمل الجسم القضائي، إن وجدت، أما المحاسبة الفعلية، فقلّما تجري رغم الخلل الكبير. كما أن الموظفين والقضاة غالباً ما يكونون على علم مسبّق بموعد الزيارة، لذلك يتجنّب أيّ منهم الغياب في هذا اليوم».
لكن هل يمكن أي مراقب أن يكوّن، خلال زيارة واحدة أو زيارتين في السنة، صورة واضحة ودقيقة عما يجري داخل المحاكم؟ وهل تسمح هذه الوتيرة من الزيارات بمراقبة جديّة لحسن سير القضاء، وأعمال القضاة والموظفين فيها؟ يعلِّق المحامي والناشط الحقوقي نعمة جمعة على هذين السؤالين قائلاً؛ «العبرة لا تكمن في الظرف الزمني الذي تأتي خلاله هيئة التفتيش القضائي إلى المحاكم، بل في فعّالية تلك الزيارة أساساً، وهي لا تخرج في الواقع عن إطارها الشكلي»، مضيفاً «لم نسمع مرة أنه جرت محاسبة قاضٍ أو موظف، رغم التجاوزات والثغر التي يُحدثها البعض». في هذا الإطار، يشير محامٍ آخر، آثر عدم ذكر اسمه إلى الكثير من الخلل الذي يعتري عمل محاكم الجنوب، ويتحدث عن «تأجيل مستمر لجلسات المحاكمة، وتالياً التأخّر في صدور الأحكام، إضافةً إلى غياب القضاة في بعض الأحيان دون سبب وجيه، ولعل الهيئة السابقة لمحكمة الجنايات في النبطية ـــــ التي انتهت ولايتها قبل حوالى سنة ـــــ كانت مثالاً صارخاً على ذلك، إذ كان القاضي يحضر جلسة ويغيب عن 10 جلسات، من دون حسيب أو رقيب»، ويتابع المحامي تعداد الثغر التي تعتري عمل بعض الجسم القضائي في الجنوب، ليصل إلى «الرشى التي تشمل الموظف والقاضي على حدٍّ سواء، ما يمثّل انتهاكاً صارخاً للقوانين»، معلّقاً «في شي قاضي ما عندو قصر؟»، معتبراً أن «آلية المراقبة عن بعد، غير مجدية أبداً، ما يستوجب وجود مكاتب للتفتيش القضائي داخل المحاكم في الجنوب، ولتكن مهمتها مراقبة عن قرب لكل شاردة وواردة تحدث في داخل المحاكم».
أكد أحد المحامين أن الكثير من الشكاوى التي تُقدم إلى التفتيش يكون مصيرها الإهمال
غياب مكاتب التفتيش عن محاكم الجنوب يدفع المواطنين المتضررين من سوء عمل المحكمة، إمّا إلى «التطنيش» لجهل الكثيرين منهم وجود هيئة تفتيش قضائي أصلاً، أو تكبّد عناء الحضور إلى بيروت، حيث مقر الهيئة، لتقديم الشكوى ومتابعة إجراءاتها. «أبو حسن» هو واحد من «المطنّشين»، يتحدث «عن وجود تواطؤ بين القاضي والخصوم في إحدى محاكم النبطية»، فقد تجاوز عمر الدعوى التي تقدّم بها «6 سنوات»، أمّا سبب صمته عن المماطلة، فيعود إلى قناعة كوّنها ومفادها «لا أعرف أنّ هناك محاسبة للعاملين في المحكمة إذا تجاوزوا صلاحياتهم»، إذ إنه لم يسمع مسبّقاً بالتفتيش القضائي. أمّا سلمان، فاستطاع أن يكشف أن أحد الموظفين في عدلية صيدا تقاعص عن القيام بواجب التبليغ من أجل التأخير في تنفيذ الحكم الصادر عن المحكمة، وذلك في محاولة من الموظف لخدمة خصم سلمان، ما دفع الأخير إلى محاسبة هذا الموظف، فتقدّم بشكوى عبر محاميه ضدّه لدى هيئة التفتيش القضائي في بيروت، ويقول سلمان «لولا المحامي لما استطعنا كشفه»، مشدّداً على أهمية وجود رقابة مباشرة على الموظفين والقضاة، وذلك تلافياً لما يحصل من تجاوزات. ولكن، بحسب ما يشير أحد المحامين، فإن الكثير من الشكاوى التي تُقدم إلى التفتيش، يكون مصيرها الإهمال، نظراً إلى أن هذه الهيئة بصفتها مركزية، فهي الوحيدة التي تتلقّى الشكاوى ضد القضاة والموظفين الموجودين في جميع المحاكم اللبنانية. في هذا الصدد يروي المحامي نعمة جمعة تجربة شخصية، إذ كان قد تقدم منذ سنة 1994 بشكوى لدى الهيئة ضد إحدى محاكم صيدا، لتزويرها أحد الملفات، وحتى الآن «ما عرفت شو صار فيها»، منتقدا فعّالية الهيئة «هيّ بس بالشكل موجودة». يرى جمعة أنه «قبل إنشاء مكاتب للهيئة في محاكم المحافظات، ولا سيّما في الجنوب، والذي يبدو في غاية الأهمية، يجب إعادة النظر في تنظيم الهيئة واستقلاليتها»، منتقداً عدم ملء الشواغر في مراكز الهيئة حتى الآن، «فالإصلاح القضائي يبدأ بوجود هيئة مستقلة تحاسب السلطة القضائية وتراقبها، وذلك من أجل استعادة ثقة الناس المفقودة بالقضاء اللبناني، وذلك يتطلّب وجود ورشة إصلاح قضائي، فالقضاء النزيه يمثّل مدخلاً للحفاظ على كرامة الناس وحقوقهم ، ويمثّل مدخلاً أيضاً إلى الإصلاح السياسي في لبنان».
يبرّر مسؤول في وزارة العدل، غياب مكاتب هيئة التفتيش القضائي عن قصور العدل في المناطق، لكونها قد «أنشئت أصلاً لتكون هيئة مركزية، مقرّها بيروت، وحالها كحال بقية الهيئات الرسمية (مجلس القضاء الأعلى، مجلس الخدمة المدنية...)، فواقعها لا يسمح لها بالعمل إلا من منطلق شكلها المركزي، وذلك خوفاً من تشتّت دورها». بيد أن المسؤول نفسه يعود ليعترف بأن «لا مانع يحول دون إنشاء مكاتب للهيئة مستقبلاً، من أجل تفعيل مفهوم المراقبة والمحاسبة»، أما في الوقت الراهن «فهناك استحالة كبيرة لإنشائها، نظراً إلى غياب عنصر بشري كافٍ للقيام بهذه المهمة، والأهم من ذلك، كيف ننشئ مكاتب في المناطق، وبعض المراكز داخل هيئة التفتيش لا تزال شاغرة أصلاً، ولا سيما أنه لم يعيّن رئيس للهيئة حتى اللحظة؟».


المهمات والصلاحيات...

في معرض حديثه عن هيئة التفتيش القضائي، لم يشر قانون القضاء العدلي (مرسوم 83/150) إلى آلية محددة لمراقبة حسن سير المحاكم في المناطق. لكن جرت العادة أن تقوم الهيئة بزيارة المحاكم بمعدل مرتين سنوياً على الأكثر. أما صلاحية الهيئة فهي محددة في المادة 97 من القانون عينه التي تنص على أن «تشمل صلاحية لهيئة التفتيش التي تخضع لإشراف وزير العدل المحاكم العدلية والإدارية والهيئات في وزارة العدل وديوان المحاسبة والأقلام التابعة لها والدوائر المركزية في وزارة العدل. ويدخل في نطاقها أعمال القائمين بعمل ذي صفة قضائية في جميع المجالس والهيئات واللجان وكذلك كتاب العدل والخبراء ووكلاء التفليسة ومراقبو الصلح. أما عن مهمات الهيئة فقد عددتها المادة 89 بتولّي «مراقبة حسن سير القضاء وأعمال القضاة وموظفي الأقلام وسائر الأشخاص التابعين لها. لفت النظر السلطات إلى ما تراه من خلل في الأعمال وتقديم الاقتراحات الرامية إلى إصلاحه. الصلاحيات التأديبية المنصوص عنها في القانون تجاه القضاة والموظفين... توجيه التنبيه عند الاقتضاء إلى القضاة والموظفين. الاقتراح على مجلس القضاء الأعلى اتخاذ التدبير المناسب بحق أي قاضٍ».