خير الله اليوسفي*ما يثير الحيرة في حادث انتحاري السعودية هو التصريحات الرسمية. الحيرة تأتي من تناقض، ومن تلمّس خيط عقدت عليه تصريحات متفاوتة، من أماكن مختلفة. ما نقل عن الملك السعودي، ومن بعده الأمير محمد بن نايف، المستهدف بالاغتيال والناجي منه. تصريحات مسؤولي وزارة الداخلية، التي يديرها والد الأمير محمد الذي بدوره يشغل منصباً حساساً فيها. تصريحات، على ما هي عليه من عدم ترابط واتساق، تشير إلى حالة ارتباك واضحة أثارها الحادث المفاجئ. ارتباك لا تحمي المكابرة عليه التصريحات من مسّ الالتباسات.
ومع أنه يُفهم من تصريحات الناطق باسم وزارة الداخلية السعودية (الوطن السعودية 30 آب) أنه حاول تهدئة مواطنيه، إلا أن ذلك لا يمنع أن تصريحاته تثير الدهشة، أكثر مما يمكن أن تريح مواطناً قلقاً. فهو يقول بداية إن الحادث لم يمثل «اختراقاً أمنياً»، ويبرر ذلك بأن «المطلوب الأمني» (أي صاحب الحالة المريبة مسبقاً) لم يخترق الأمن وهو يحاول الوصول إلى الأمير محمد بن نايف، لكن الأخير سمح بنفسه له أن يدخل عليه ولم يأمر بتفتيشه. وفي مكان آخر من تصريحه (التطميني) يستطرد المتحدث بالقول إن استهداف الأمير هو استهداف للقادة الأمنيين، لأن الأمير هو «رجل أمن في المقام الأول». صحيح، فالأمير محمد أحد أبرز المسؤولين الأمنيين في حرب المملكة على الإرهاب. كيف يكون الحادث، إذاً، لا يمثل اختراقاً أمنياً، مع أنه في الوقت نفسه استهداف لرجل أمن في المقام الأول، وأي رجل أمن!! هل هناك ختراق أمني أكبر من الوصول إلى قائد أمني بارز، واستهدافه؟ هل هي «حزورة»؟ وخصوصاً أن تقارير قالت إن الإرهابي وصل إلى الأمير، بدون أن تقول بدقة كيف (وسيلة النقل وكيف تأمّنت له، ومن أمّنها). أفعال مبنية للمجهول، تلك التي شرحت ذلك. تقارير غربية، قالت إن الإرهابي وصل إلى الأمير بطائرة ملكية. وكل التقارير تقاطعت على أن الإرهابي كان مصحوباً بمرافقة أمنية، أي قبل أن يصل إلى حرس الأمير، ويسمح الأخير له بالدخول بدون تفتيش (كل هذا السرد يمشي خطوة بخطوة مع الرواية الرسمية). كان الإرهابي على متن طائرة ملكية، ومع مرافقة أمنية، والمتحدث باسم وزارة الداخلية يقول إنه ليس من اختراق أمني. عجيبة!
نعود إلى أول الأحاديث التي نقلت عن محاولة الاغتيال الفاشلة. إنه حديث الملك نفسه. كيف كرر على مسامع الأمير، وهو يطمئن عليه، مستغرباً استقباله الإرهابي التائب في بيته الخاص. كرر مستغرباً مرتين، حسبما نقل عنه: «في بيتك الخاص»؟ بينما الأمير يكرر «في بيتي». من حق الملك أن يستغرب. كان غريباً إن لم يفعل، ومن حق أي كان أن يندهش من السيناريو الذي وردت فيه الحكاية، لا آذى الله أحداً وسلامة الجميع.
يمكن القول إن وسائل الإعلام السعودية التي نقلت الحديث، والمصادر الرسمية التي استقبلته، أُربكت به. بتداعياته، على أي عاقل يقرأه. جل من لا يخطئ، لكن الأمير هو المعني بقيادة حملة على الإرهاب. الحمد لله على سلامته، لكن الأولى بمن يتنكب مهمة حماية شعب من الإرهاب أن يكون قادراً، قبل كل شيء، على حماية نفسه. ليس هذا انتقاصاً، لكنه استغراب من الرواية. بعد حديث الملك، نُشرت تقارير عن سعة صدر الأمير، وأنه طالما فتح ذراع المملكة لاستقبال التائبين. جرى التركيز على الخبر الجيد في القصة، وتحديداً في حديث الملك والأمير، وأغفل الجانب الآخر. أربكت التصريحات المتطايرة، واستتبعت تصريحات ليست أقل ارتباكاً.

تصريحات الناطق باسم وزارة الداخلية السعودية تثير الدهشة أكثر ممّا تريح مواطناً قلقاً

جاءت لاحقاً رواية وزارة الداخلية لكيفية حصول الحادث، ومن أين أتى الانتحاري عبد الله عسيري وكيف نفذ إلى الأمير. رواية رسمية تزامنت مع توزيع الوزارة تسجيلاً صوتياً لمكالمة بين الأمير والانتحاري. الرواية تقول إن الانتحاري استغل تعاون السلطات الأمنية السعودية واليمنية، وجهودهما لاسترداد امرأة سعودية وأطفالها، وهي الزوجة لمطلوب أمني آخر. هذا مهم في القصة، لأن الإرهابي استغل جهود اليمن والسعودية، وادعى أنه يحمل رسالة من المرأة، ومن تائبين غيره يريدون العودة. وفحوى المكالمة الهاتفية التي نشرت، بين الأمير والإرهابي، تؤكد أن المرأة والأطفال هم المهمون. الأمير يؤكد ذلك، ويسأل الإرهابي الذي يحادثه مطمئناً عنهم أكثر من مرة. يقول له إنهم أهم منه ومن التائبين، وسلامتهم فوق كل اعتبار آخر. حديث، يواكبه بيان رسمي بالمضمون نفسه، أخذ أيضاً على طريقة «ما أكبر قلب الأمير». فهو يحادث الإرهابي، ويقبل توبته، ويطمئنه بإعطائه الأمان، وكأنه ابنه. هذا تكتيك جيد، وأن يأمن من يريد تسليم نفسه عليها أمر ضروري. ويمكن فهم لطف الأمير على أنه «حذاقة» أمنية... لكن أن يتبنى لاحقاً إدخاله بدون تفتيش، فهذا ما يظل فوق المنطق «الأمني». وأن تقول وزارة الداخلية إن العملية ليست اختراقاً أمنياً، فهذا كثير على من يريد الفهم، ولا نقول التحليل واستخلاص النتائج والاعتبار.
واللافت أكثر ما ذهبت إليه وسائل إعلام سعودية في تفنيد الحادث وتبريره. قصة المتفجرات التي زرعها الانتحاري في مؤخرته، نقلها موقع «العربية نت» السعودي عن مصادر لم يسمها، وروايته لم تتبنّها الجهات الرسمية التي أصدرت بيانها لاحقاً، وقالت إن ما وصلت إليه جهود الطب الشرعي وتحاليل المخبر الجنائي هي نتائج «تقتضي المصلحة الأمنية عدم نشرها في الوقت الحالي». وليسند الموقع روايته ويشرحها، تحدث إلى مسؤول أمني سابق في مباحث أمن الدولة المصرية. المسؤول الأمني ساق من حيث وصلت الوسيلة الإعلامية في روايتها، وقال إن الإرهابيين استلهموا حكاية زرع المؤخرة بالمتفجرات من تجار مخدرات استخدموها. تحدث عن تكنيك هذه الزراعة الخاصة، وأن بقاء المادة المتفجرة في جسم الانتحاري يمكن أن يتراوح بين ساعة و24 ساعة، وذلك تبعاً، كما يتابع شرحه، لخصائص المادة وقوة الشاب الذي يضعها في مؤخرته حتى لا تتحرك أو تخرج. وذهب الخبير الأمني إلى أن الشاب ينبغي ألا يجلس أو يحدث حركات فجائية كثيرة. هذه رواية، فرضية تبقى، لكن الشاب، وبفرض أن قوة تحمله كبيرة، انتقل من مكان إلى آخر، وربما ركب الطائرة وهل ظل واقفاً فيها؟ ثم إنه هل كان تنبأ بالتسهيلات الأمنية، وأنه لن يُفتش بينما يدخل على قصر الأمير. ثم حتى لو كانت الفرضية، على غرابتها، صائبة، فالمعروف أن أجهزة الكشف الحديثة تستطيع التنبيه إلى ما في داخل الجسد الإنساني. نتحدث عن أجهزة كشف حديثة لأن هنا الأمير في قصره، وهو المسؤول الأمني البارز، وعن أمن يكافح إرهاباً... وليس أمن متاجر التبضّع التي تجد أمامها آلات تطن إذا استرقت منها بضائع لم تمر على حاسبها؟!!
هناك رواية رسمية. قد تكون صائبة، وقد يكون جزء منها حجب لضرورات أمنية، وقد تكون طريقة «تحريرها» متسرعة، وقد تكون الضغوط لعبت دوراً في تصريحات غير مضبوطة... لكن يبقى أن هناك أحد أبرز قادة مكافحة إرهاب المملكة السعودية تعرض لمحاولة اغتيال بطريقة غرائبية، وفي قصره وبين حرسه، ومن إرهابي مطلوب أمنياً. هذا ليس أمراً يدعو إلى الاطمئنان. لا أضر الله مخلوقاً.
* كاتب عربي مقيم في أوروبا