ناهض حتر *تريد حكومة نوري المالكي الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي وإنشاء محكمة دولية لسوريا. ضربة معلّم! تقلّد قوى 14 آذار في لبنان، سوى أنها تثير الضحك أكثر مما تثير الشفقة. فالمنتظر ممن يريد التصدي لمهمة تاريخية في ضخامة بناء نظام مستقر في العراق أن يكون، أقله، متجاوزاً للعدة السياسية لتيار طائفي في لبنان، الشقيق الأصغر لسوريا، وليس منافسها أو ندها الاستراتيجي كما هو العراق.
المحكمة الدولية الخاصة بالحريري أداة بُنيت في ظروف مختلفة نوعياً: كان المشروع الأميركي في العراق، عام 2005، لا يزال يسعى جاهداً لتجاوز الفشل من خلال انقلاب في لبنان وتالياً سوريا، ومن ثم إعادة تركيب المنطقة سياسياً في «الشرق الأوسط الجديد» بمشاركة إسرائيل التي كُلّفت مهمة تصفية حزب الله عام 2006، وفشلت.
لكن، اليوم، بعد تفجيرات الوزارات في بغداد، أعلن البيت الأبيض أن خططه للانسحاب من العراق لم تتبدّل. وعلى كل حال، ليست هذه التفجيرات الأولى، ولن تكون الأخيرة في عراق لم يهتد بعد إلى سياق للتسويات الداخلية الكبرى. وهو ما يحتاج لقيادات من أوزان غير متوافرة في طواقم العملية السياسية الأميركية ــــ الإيرانية القائمة.
التفجيرات، مثل سواها التي تنال أهدافاً أهلية، مُدانة بالطبع. سوى أنها تقدم دليلاً قاطعاً على أن تجنيد مئات الآلاف في الأجهزة الأمنية ليس ضماناً لحكم متشقق من داخله بين المليشيات الحاكمة، ويواجه من خارجه تمرداً يمتلك أدواته الاجتماعية والأمنية.
إذا كان البعثيون المدعومون من سوريا هم الذين اخترقوا نظام المالكي الأمني، فمعنى ذلك أن البحث عن نظام مستقر في العراق لا يمكنه أن يتجاوز البعثيين ولا سوريا. وهذا ما تدركه إدارة باراك أوباما، فتجدّ في سعيها لتأمين ترتيبات ما بعد الانسحاب بالعلاقة مع خصوم الأمس.
البعثيون في عراق اليوم عادوا ليكونوا قوة رئيسية في البلاد. ويعود هذا التطوّر الذي لم يكن متَصوّراً حتى وقت قريب، إلى فشل القوى السياسية لما بعد 2003 في تقديم أفق جديد للعراق، بل حتى في تقليد الرئيس الراحل صدام حسين كما توهّم نوري المالكي في لحظة عابرة.
قوى العملية السياسية الملطَّخة بالعمالة للاحتلالين الأميركي والإيراني، تتناقض أساساً مع الوجدان العراقي الفخور بالذات، وتظل تفتقر، في العمق، إلى الشرعية الوطنية التي لا تستطيع الشرعيات الطائفية أن تكون بديلاً منها إلا في ظل تقسيم البلد. ولذلك، فإن مشروع آل الحكيم لإنشاء إمارة شيعية تحت الوصاية الإيرانية هو أكثر واقعية من مشروع المالكي لفرض حكم طائفي ــــ أمني على العراق كله. على أن الفريقين موغلان في الدماء، وفي الفساد، وفي العجز عن الإدارة العامة والإعمار والخدمات. وفي المقارنة، سيفوز النموذج البعثي بالنسبة للمواطن العراقي الذي يفتقر إلى طرح مستقبلي، فيملأه الحنين إلى الماضي.
على أن قوّة البعثيين الأساسية تكمن في التركيز الحاصل على الجانب الأمني، سواء من الأميركيين أم من حكّام بغداد المذعورين. فإذا كان الأمن هو المعيار الرئيسي ومصب الجهود والأموال، فإن لدى البعثيين، سواء كانوا خلف التفجيرات الأخيرة أم لا، القدرة على نسف أي إنجاز، ولا يحتاجون من أجل ذلك أكثر مما يملكونه فعلاً من خلايا أمنية فاعلة. وهم يستطيعون بأقل قدر من الجهد والشعبية إنهاك أي نظام عراقي لا يستوعبهم جدياً. وكلما تأخر ذلك الاستيعاب أكثر، فلن يكون البعثيون بحاجة إليه، إذ سيفكرون عندها، وعن حق، بأنهم قادرون على العودة إلى حكم البلاد.
لا أناقش هنا تاريخ النظام البعثي في العراق، ولا أخطاءه ولا خطاياه. ولكنني أوضّح المشهد القائم اليوم عشية انسحاب الاحتلال الأميركي من العراق والصدام العسكري المحتمل مع طهران. فالانسحاب ذاك هو شرط لا مناص منه لتأمين الجبهة الأميركية في حرب تزداد فرصها مع الجمهورية الإسلامية، فلا تعود الأخيرة قادرة على الرد على هجوم جوي أميركي بمذبحة للجنود الأميركيين المنكفئين في العراق. ولعل هذا هو أحد الأسباب الرئيسية التي دعت البيت الأبيض، وستدعوه لاحقاً، إلى التأكيد على انسحاب قواته، وربما على انسحابها أسرع فأسرع، رغم الانهيارات الأمنية القائمة والمتوقعة، سواء أكانت بفعل إيراني لتأخير الانسحاب الأميركي، أم بفعل بعثي لتأكيد الحضور السياسي في عراق ما بعد الاحتلال.
البعثيون، أعداء إيران المتصلبون، هم اليوم أفضل مَن يحكم بغداد من وجهة النظر الأميركية. وإذا كانت التطورات الحاصلة منذ 2003 قد وضعت بعثيي العراق في أحضان سوريا، فإن إغراء النفوذ السوري المستقر والمتنامي في العراق سوف يدفع دمشق للمغامرة بفك تحالفها مع طهران.
لم يقدم البعثيون، كما هو مطلوب عن حق من جانب مثقفين وطنيين عراقيين، نقداً ذاتياً عن فترة حكمهم الطويلة المريرة، لكن «سورنة» البعث العراقي هي بديل واقعي من ذلك النقد، بالفصل بين البعث وصدام، من دون خسارة إيحاءات الإنجازات التنموية والقدرة الإدارية للنظام السابق.
غير أنّ الأوراق الأساسية التي يملكها البعثيون الآن هي تلك التي تتعلق بالقضية المركزية المطروحة، أي القضية الأمنية: 1ــــ يستطيع البعثيون، بقدراتهم الذاتية كما بالغطاء السياسي العراقي الذي يمنحونه للجهاديين السنّة وخلايا «القاعدة»، أن يشكلوا تهديداً أمنياً مستديماً ومتعاظماً لعراق ما بعد الاحتلال. 2ــــ في المقابل، وبالقدرة نفسها، يستطيع البعثيون إعادة الإسلاميين إلى المساجد وعزل «القاعدة» وضربها. 3ــــ وبالنظر إلى ماضيهم العلماني، وبرغماتيتهم المتجذرة القادرة على شطب مرحلتهم الإسلامية في 24 ساعة، يمكن البعثيين شنّ حملة علمانية واسعة وحاسمة واستئصالية في صفوف السنّة الذين تفضّل نخبهم تمثيلاً سياسياً علمانياً وقومياً للطائفة، يحقق لها حضوراً لا يحققه التمثيل المذهبي الذي يضع السنّة في موقع الأقلية. 4ــــ وعلى هذه الخلفية، يمكن البعثيين استقطاب النخب العلمانية والكادرات المدنية الشيعية عدا الأقليات الدينية ذات المصلحة بالنظام العلماني، 5ــــ وإلى ذلك، فإن الاستعداد للمواجهة الشاملة مع إيران، المكروهة، التي أهانت الوطنية العراقية الفخورة، ومع الأحزاب الكردية التي أوغلت في التطاول على عروبة العراق ومصالح الأغلبية العربية، سيجد تأييداً وطنياً.
منذ 2003 كان منتظراً ولادة تيار عراقي يساري يمثل البديل التاريخي للماضي البعثي ولحاضر الاحتلالين وعمليتهما السياسية الطائفية. إلا أن ذلك التيار لم يتبلور واقعياً كقوة على الأرض قادرة على تغيير المعادلة التي ظلت محصورة بين البديلين، البعثي والشيعي الإيراني. وإذا كان البعث هو أعلى تعبير مدني ممكن عن السنّة، فإن الحركة الشعبية في صفوف الشيعة، المؤهلة أكثر للانزياح نحو اليسار، لم تستطع أن تكسر سيطرة المليشيات الطائفية الإيرانية المحكوم عليها بالفوات والسقوط من وجهة نظر الوطنية العراقية والتقدم الاجتماعي معاً.
غير أنّه لا يزال هناك متسع لبلورة تيار يساري ديموقراطي قادر على لعب دور نضالي في عراق الغد، إذا ما تمكنت مجموعة أو

البعثيون، أعداء إيران، هم اليوم أفضل مَن يحكم بغداد من وجهة النظر الأميركية
مجموعات يسارية من التصدي لمهمة كنس الاحتلالين وقمامتهما العراقية وعمليتهما السياسية ونتائجها، على أساس الآتي:
1ــــ المبادرة إلى تنظيم حملة علمانية وطنية مضادة جذرياً للإسلام السياسي بكل مشاربه وأشكاله، وتحميله، جملة، مسؤولية تمزيق العراق ومنع نهوضه، 2ــــ وهو ما يتطلب القدرة على حماية الكوادر اليسارية المساهمة في هذه الحملة بالسلاح، فلا مناص ليسار عراقي فاعل اليوم من اللجوء إلى تأسيس قدراته المقاتلة، 3ــــ المبادرة إلى تنظيم المقاومة السياسية والمسلحة ضد النفوذ الإيراني، وإدانة المتعاملين معه كعملاء. وفي رأيي أن اليسار العراقي غير معني، من موقعه الوطني، بمعادلة التحالف المعقدة مع إيران في مواجهة العدو المشترك، كما هي الحال في بلاد الشام. ففي العراق، إيران هي العدو الذي لا مفر من التصدي له وإخراجه من البلاد كشرط لاستقلالها ووحدتها وتقدمها.
على اليسار العراقي الوطني أن يكون حاسماً لجهة الرفض المبدئي ليس فقط للانفصالية الكردية، ولكن أيضاً للحكم الذاتي الكردي، فكل حكم ذاتي في العراق ليس سوى إطار لسيطرة الرجعية المحلية على جماهير الإثنيات والطوائف. ولا يمكن إطلاق قوى هذه الجماهير نحو الدفاع عن مصالحها الاجتماعية والانخراط في التقدم إلا في إطار دولة مركزية. 4ــــ إن الإفقار الشامل للعراقيين والبطالة والفساد واللصوصية والتحوّل إلى الليبرالية الكمبرادورية، وخصوصاً في صناعة النفط، هي عناوين للنضال اليساري الذي ينبغي شنه من دون تأخير. 5ـــ وعلى هذه الأسس بالذات، يمكن اليسار الوطني العراقي التحالف مع البعثيين، ومع أية قوى مدنية أخرى، بعيداً عن السجالات العقائدية والماضوية.
يبقى بالطبع تأمين الدعم! انتزعوه بالسلاح، وبالتحالفات المؤقتة حتى مع الشياطين!
* كاتب وصحافي أردني