غسان سعودلم يكد الرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري يكشف للمعارضة نيته تسليم رئيس الجمهورية تشكيلته الخاصة حتى سمع الناس ببلدة شدرا؛ سمعوا أن أهلها مسيحيّون أتقياء، غالبيتهم عونيون مسالمون يعيشون بهدوء في «بحر من السنّة». وسمعوا أن «أهل السنّة ـــــ أنصار تيار المستقبل» غزوا هذه البلدة الهانئة، وكرّروا في أزقتها رقصات الغضب التي سبقهم إليها زملاؤهم في 5 شباط 2006 في الأشرفية. وطبعاً، كان غالبية المستمعين على مستوى التحدّي، فصارت شدرا على شفة كل الخائفين على الوجود المسيحي، يبحثون عنها للدلالة على آخر ملاحم المسيحيين في سبيل العيش بحرية في هذا الشرق. وتزامناً مع الحدث الشدراوي، كمن التيار الوطني الحر لمفتي جبل لبنان محمد علي الجوزو الذي يصرح منذ 4 سنوات أكثر مما يتنفس، فرد التيّار ببيان، قبل إرساله مبعوثاً إعلامياً إلى دارة مفتي جبل لبنان ليوقع به ويعود بمتفجرات إعلامية تؤكد للمشككين أن تيار المستقبل يعتقد أن المسيحيين في لبنان أهل ذمة.
هكذا اكتمل إخراج المشهد؛ حادث شدرا وكلام الجوزو ما هما إلا الوجه الآخر لرفض الرئيس المكلف سعد الحريري إعطاء العماد ميشال عون بصفته زعيماً مارونياً حق اختيار وزرائه في الحكومة. وأتى كلام الوزير جبران باسيل لاحقاً عن اضطهاد التيار ليضع النقاط على حروف السيناريو ـــــ الرد.
في الوقت نفسه، كان العماد ميشال عون ينتقد اتهام التيار بأنه يهاجم الطائفة السنية بمجرد طلبه فصل سلطة المراقبة عن سلطة التنفيذ. هكذا يكون التيار، عن قصد أو عن غير قصد، انجرّ إلى لعب لعبة تيار المستقبل نفسها، فيجعل من إشكالات صبيانية في بلدة عكارية منسية إنذاراً بتهديد سني للوجود المسيحي في لبنان، ومن خطابات شيخ متهوّر عقيدة فكرية لتيار المستقبل.
ما حصل بين بعض أهالي بلدة شدرا وبعض جيرانهم من أبناء بلدة مشتى حسن يوم السبت الماضي لا يختلف عمّا يحصل يومياً بين الجيران، سواء كانوا مسيحيين وسنّة أو مسيحيين وشيعة أو مسيحيين ومسيحيين؛ كل بضعة أيام تمرّ بشدرا مجموعة شبان «غرباء» عن البلدة «يلطشون» فتاة شدراوية فتفور غيرة أبناء البلدة عليها ويلقّنون جيرانهم درساً في آداب المرور الصامت في بلدتهم. لكن، أخيراً تطور الأمر أكثر. فبعيد الإشكال الاعتيادي، قبض الجيش على أحد أبناء مشتى حسن ما دفع هؤلاء إلى مهاجمة حاجز الجيش في بلدة شدرا، وحكماً دخلت المفردات الطائفية على خط الشتائم المتبادلة. لكن الجديد كان ترقب أحدهم تلطيشة سنية لصبية مسيحية أو «تشفيطة» سنية في حي مسيحي ليخترع باص عين رمانة جديداً ويدقّ الأجراس خوفاً من مجزرة دامور جديدة.
الخطير في الموضوع، بحسب علمانيين عكاريين، أن التيار الوطني الحر أظهر أنه ليس أكثر نضوجاً من تيار المستقبل في ما يتعلق بتحريك الغرائز الطائفية كلما حُشر قليلاً في الزاوية. ووفق المتابعين، فإن ثمة من لم تسرّه الوساطة التي بدأها أخيراً وجهاء من شدرا ومشتى حسن لوصل ما قطعه التوتر بين البلدتين، وخصوصاً أنّ شدرا ممرّ إجباري لأبناء مشتى حسن إلى بلدتهم.
هناك في عكار من لم يعجبه اعتماد الوطني الحر لغة المستقبل في المخاطبة. وخصوصاً أن جمهور المعارضة لم ينسَ بعد «سكوت المعارضة» عن مجزرة حلبا، وهؤلاء لا يريدون للقرية البرتقالية ولا لأية بلدة أخرى أن تدفع ثمن تسجيل النقاط وتأكيد أفكار ملتبسة.
الجدير ذكره هنا أن شدرا ـــــ آخر بلدة مسيحية شمال الـ 10452 كلم مربعاً ـــــ قدمت سابقاً وحاضراً الكثير للكنيسة الأرثوذكسية، واليوم هناك أكثر من 20 شخصاً من أبناء البلدة يتوزعون ضمن الإكليروس، أبرزهم مطران المكسيك للروم الأرثوذكس أنطوان الشدراوي. لكن، في المقابل، لم تقدم الكنيسة الأرثوذكسية شيئاً مادياً لأبناء هذه البلدة، فلم تبنِ الكنيسة مدرسة أو مستوصفاً أو مكتبة أو صالة أفراح أو ملعباً، كما لم توفّر منحاً تعليمية أو مساعدات اجتماعية أو غذائية أو استشفائية.
حال الكنيسة في ذلك من حال الأحزاب. فشدرا التي سجلت أكبر نسبة تأييد للعماد ميشال عون في الانتخابات الأخيرة (أكثر من 82%)، والتي أطلق عليها عون لقب «القرية البرتقالية» بعد تخريجها عدداً من القياديين العونيين، أبرزهم أنطوان دانيال وروجيه حنا وجان بول ديب وجان عوض وغيرهم، لم تلقَ أي اهتمام من نواب تكتل التغيير والإصلاح، ولم يبادر أحد من مسؤولي التيّار إلى سؤال الشدراويين كيف يخدمهم.
وبدورها، الحكومات المتعاقبة على الحكم لم تقصّر أيضاً. فرغم مواظبة أبناء البلدة على الانتساب إلى مؤسسة الجيش وتخريج المدرسة الحربية أكثر من 40 شدراوياً، لم تسعَ مؤسسات الدولة إلى اكتشاف أين تقع هذه البلدة: تصلها الكهرباء 6 ساعات يومياً وأعمدة الإضاءة أكلها الصدأ ومشى، المدرسة الرسمية ودّعت التلاميذ وأقفلت أبوابها منذ سنوات، جرافات الدولة لا تهتم بشق الطرقات ليصل الناس إلى أراضيهم، وحيث وصلت الجرافات لم يصل الزفت، عمال المساحة تركوا للمخاتير تقدير مساحات الأراضي ورسم الحدود، وحتى النهر لم يجد مبادرة من الدولة لإنشاء سد عليه يفيد أبناء البلدة بدل ذهاب مياهه هدراً.
بهذا المعنى، لم تستفد البلدة من انتماءاتها المتعددة لتتميز عن جيرانها، ومعظم أهلها المزارعين يعيشون ببؤس يوازي بؤس أهالي مشتى حسن ومشتى حمود.