كرمى سلامةأحمر داكن لا يبارح مشاهد ذاكرتي الطفولية المكتظة بالقتل والخراب والحرائق والتهجير. رائحته تفوح من ثيابي القديمة التي احتفظت بها أمي للذكرى. تفوح من دفاتري ومن قصصي التي واظب أبي على إهدائي إياها ولم أقرأها لأنني لم أتمتع بأوقات فراغ. اغتالت الملاجئ وقتي. احتلّ التهجير من بيت إلى آخر خيالي. سرق وقتي أمراء الحرب بقنابلهم وشعاراتهم وميليشياتهم، ورصاصهم الذي صنع من جدران منزلنا لوحة تشكيلية معاصرة!
اغتالوا ساعات التأمل والصمت والاستمتاع بحفيف أوراق القصص الملوّنة المصوّرة التي كان ناجي، صاحب المكتبة قرب مدرستنا، يستوردها من «أمنا الحنونة»، بلاد الجنرالات «الأبطال» نابليون وشارل ديغول... كان ثمن القصة الواحدة منها مع كاسيت مرافق يقرأ النصوص بفرنسية باريسية محض، يُطعم أسرة من أربعة أشخاص. لكن أبي كان يشتريها لأنّه أراد أن يوسّع آفاق طفلة لم يدرِ أنّ الكره سيطر عليها. أرادني أن أتقن لغة «المسيحيين في لبنان»، كي لا أُخطئ في الـ«غرامير» (قواعد) أو في الـ«أكسان» (اللكنة) الأصلية، كي لا يتعرفوا إلى طائفتي من لكنتي الفرنسية! لكنّه لم يعرف أنني كبرت ولم أعد طفلة منذ صرت أستلذّ برائحة البارود، وألاعب الطائرات الإسرائيلية وانتظرها بفارغ الصبر، وأُطرب لصوت القذائف. لم أعد طفلة تفرح لصور ملونة وقصص «وي وي ذهب إلى المدرسة».
كرهت هذه القصص أكثر من كرهي الحليب. كنت أتصفحها للحظات، ثم أمزّقها وأرمي الوريقات عالياً لتتطاير كفراشات حرّة في حقل واسع. كنت عنيفة من دون أن أعرف معنى العنف. كانت هوايتي ضرب أصدقائي وأقاربي، وكانوا ينادونني «أبو علي»، زعيم العصابة في الحيّ، رغم نعومة ملامحي وطول شعري الأشقر. لم أكن أفهم ماذا تعني الزعامة. ولكنني كنت أستلذّ بها وأفتخر بنفسي عندما تأتي جارتنا وتشكوني لأبي لأنني جرحت ابنها، أو قطفت شجرة الكرز في حديقتها وعبّأتها في أكياس وهربت... كانت شخصياتي المفضلة كميل شمعون، وأمين الجميل، ونبيه بري، وأبو عمار، وإبراهيم قليلات... لم أكن أعرف سياساتهم، لكنني كنت أقص صورهم من الصحف وأعلقها على جدران غرفتي ذات اللون الزهري. قد يكون اللون مطابقاً لحياتهم الوردية عندما كانوا «أسياد الوطن». أما في الموسيقى فكبرت أردد مصطلحات الموت «فداء ونعش وموت وتابوت وتراب وبارودة» بحماسة وحب. ثم جاءت موجة ميشال عون الذي كان رمزاً لرفاق صفي من المسيحيين، فصرت أردّد «رح نبقى هون مهما العالم قالوا ما منترك عون ولا منرضى بدالو».
ولا أنسى مشاحنات جدي القومي السوري وجدتي العاشقة لحركة أمل. الاثنان يتسابقان على ذاكرتي الصغيرة التي لا تتّسع لطموحاتهما سوية. كان كل منهما يعلّمني أن أحفظ عن ظهر قلب «ترتيلة» حزبه. فتحتدّ المعركة وأنا طفلة مشاغبة أريد كسب رضى الطرفين كي لا أخسر أموال أحد منهما، حتى تأتي خالتي وتنقذني فتقول لي «ردي ورايي حافظ الأسد قائدنا إلى الأبد... بالدم بالروح نفديك يا قائد»...
الآن، كبرت وصرت راشدة كي أقول لأي كان من «أبطال» هذا الوطن الممزّق الذي شربنا فيه طعم الموت مع الحليب إنني لن أفدي أحداً بدمي. فكل مشاريعكم بائدة. لن أحوّل غرفتي إلى ساحة معركة مجدداً، إلى لبنان صغير. دمي ملك لي، وملك لي وحدي.