ليال حدادقالت لي إنها نزلت إلى الطريق. حملت صورته ونزلت متشحة بالسواد وصارخة «عطونا سلاح... بدنا سلاح». كان ذلك في أيلول 1982.
قالت لي إنّ المسيح يحبّه، لأنّه نقله إلى أحضانه يوم عيد الصليب. هو شهيد، والله يحب الشهداء، وخصوصاً إذا ماتوا دفاعاً عن الوجود المسيحي في الشرق.
قالت لي إنّ الأيام مرت لكنّ جرحها الوطني ما زال مفتوحاً، والله سينتقم من القاتلين، إن لم يكن على الأرض، ففي الحياة الثانية. هذه الحياة التي لا تنفكّ تتحدّث عنها، مذ تقدّمت في العمر.
قالت لي أشياء كثيرة لم أعد أذكرها كلها، وصورة بشير محفورة على صليب خشبي وضعته في غرفتها، إلى جانب صور أولادها المهاجرين والمقيمين وأحفادها.
القدر أنقذه وأهله من التحول إلى وليمة لمصاصي الدماء اللبنانيين
قال لي إنّه كان في الثالثة يوم أطبقت السماء جناحيها على أقاربه، ويوم حاصرتهم الدماء من كلّ الجهات... حتى من السماء.
قال لي إنّه رغم صغر سنه آنذاك، ما زال يسمع أنين الموتى. كان الصوت بعيداً، بعيداً جداً، لكنّه سمعه، هو وحده سمعه.
قال لي إنّ القدر أنقذه وأهله من التحول إلى وليمة لمصاصي الدماء اللبنانيين. نعم، يقول لبنانيين. لا يفرق بين فريق وآخر، ولا بين فرد وآخر. هو يكره اللبنانيين. ولا مجال لمناقشته في ذلك. أما الإسرائيليون فقصة أخرى.
قال لي إنّه لن ينسى. ولو بعد ألف عام. سينتقم بيديه، وسيحفر لهؤلاء قبورهم، ويدفنهم، مبوّلاً على جثثهم.
لم أفهم يوماً ثنائية بشير ــــ صبرا وشاتيلا. بهذه البلاهة لا أفهم المعادلة. أعجز عن إيجاد العلاقة بين اغتيال أمير حرب (سفاح) وبين الانتقام من نساء وأطفال المخيمَين. ولمن لا يعرف (صدقوني هناك من لا يعرف) فإنّ صبرا وشاتيلا مخيمان وليسا مخيماً واحداً، أو غابة وحوش مهملة.
في المخيمين اليوم، فقر، نفايات، أفلام إباحية، وشباب ونراجيل. في المخيمين اليوم صور وملصقات و«فلسطين حرة عربية» على الجدران. في المخيمين اليوم مجتمع مدني ورسم على الجدران، ومحاولات نشاطات ترفيهية. إنّها المجزرة نفسها، ترتكب كلّ يوم، على خلفية قومية وإنسانية: إنّه حقّ العودة.