قبل حوالى ثلاث سنوات كانت رفوف محال بيع الإيشاربات تعجّ بتلك المحوكة من أقمشة متنوعة، التي لم يكن سعرها «يكسر الميزانية». لكنّ الوضع تبدّل اليوم، بعد أن غزا «الحرير» رؤوس الكثير من المحجبات اللواتي لا يتردّدن في دفع مئات الدولارات ثمناً لإيشارب. تبدّلٌ في السلوك الاجتماعي والاستهلاكي حوّل الواجب الديني القاضي بالحجاب نحو تقديم المظهر على سواه
زينب خليل
«95% من زبونات المحل يطلبن إيشاربات الحرير». هذا ما تلاحظه هدلا البائعة في أحد محال بيع الإيشاربات في الضاحية الجنوبية لبيروت. تأتي البائعة برقمها من واقع يومي معيش ترصده العين في معظم تلك المحال. داخل أحدها يمكن التقاط مزاج فئة بات استهلاكها متطلّباً يشبه في نمطه مستهلكي ماركات «السينييه».
واحدة تسأل عن «آخر شي نزل عندكم»، من دون أن تهتم بالسؤال عن السعر، الذي بدا أنه آخر ما يشغل بال زبونة أخرى كان جلّ اهتمامها منصبّاً على معرفة هوية من سبقها إلى شراء إيشارب تريد أن تكون هي أول من يرتديه. تلحّ على البائعة لتسرّ لها عن عدد الشاريات وأسمائهن. «بعنا وحدة بتشتغل بالمؤسسة س. والتانية، والله ما بعرفها» تجيب البائعة التي ملّت استجواب الزبونة. فتبرّر الأخيرة بما يشبه الرجاء «حبيبتي اليوم معزومة على إفطار (تذكر المكان والجهة الداعية) ومش حلوة روح لاقي البنات كلّن لابسين نفس الإيشارب»!
«نفس الإيشارب» هذا بلغ ثمنه 50 دولاراً أميركياً. سعر لا يمكن وضعه تحت خانة «التشجيعي» أو «الشعبي»، بحيث تجد كثيرات يرتدينه. لكنّ «تخوّف» السيدة في مكانه في ظل انتشار «ثقافة الفولارات الحرير» حتى ضمن الأوساط الشعبية.
زبونة أخرى تسأل عن إيشارب ترتديه إحدى مذيعات قناة المنار. تقول هدلا إن «الزبونات ما إن يشاهدن على الشاشة مذيعة التلفزيون ترتدي إيشارباً جديداً حتى يسارعن إلى طلبه من المحل». هو زمن الصورة إذاً، وهذا ما يشير إليه سهيل مرتضى، صاحب أحد أكبر محال الإيشاربات في لبنان «التلفزيون أسهم كثيراً في تشجيع هذه الظاهرة»، مشيراً إلى أن ذلك يدخل في سياق «ثقافة استهلاكية تغزو المجتمعات المتديّنة».
تبدأ أسعار إيشاربات الحرير من 18 دولاراً لتصل إلى 150 دولاراً. وهي تستورد من إيطاليا، تركيا، الهند والصين، وتختلف بين تلك المصنّعة من الحرير «الأصلي» والحرير «المقلّد». والأخير، الذي يتراوح سعره بين 20 و50 ألف ليرة دخل السوق لتلبية حاجة ذوي الدخل المحدود، لكنه لم يستطع وقف تزايد الطلب على الحرير «الأصلي»، فعين المحجبات تلاحق الإيشارب الأغلى.
«الزبونة تنأى عن الرخيص وترى أنه كلما ارتفع السعر علت القيمة»، يشرح مرتضى الذي يحدثنا عن سيدة دفعت لأحد التجار 300 دولار ثمناً لإيشارب يباع بالجملة بـ45 دولاراً!
صراحته تشجع على سؤاله عن المسؤولية التي يتحمّلها التجار والمستوردون المتهمون بفرض هذا النوع من الإيشاربات على المستهلكة، ووضعها أمام خيار أحادي لا بديل منه. يقرّ بجزء من المسؤولية، لكنه يشير إلى أن التاجر مضطر إلى تلبية «متطلّبات السوق. نحن نوفر كل أنواع الإيشاربات، لكنّ الزبونة هي التي تبحث دوماً عن الأغلى ثمناً»، داعياً إلى إعادة «شرعنة الإيشارب»، بمعنى إعادة الحجاب إلى أصوله الشرعية بعيداً عن المزايدة بالسعر واللون والنقش و...الماركة.
لهذه الإيشاربات ماركاتها أيضاً، هذا ما تشي به الأسماء التي تذيّل طرف الإيشارب مثلJolline Cherry, Marina Verde، Calviero وغيرها. أسماء أجنبية لها وقع على مسمع الشارية التي قد يخيّل إليها أنها تعود إلى شركات مصنّعة أجنبية، ما ينفيه مرتضى الذي يشير إلى أنها نابعة من مخيّلة المستورد المحلي: «نحن نخترع أسماء الماركات ونسجلها في وزارة الاقتصاد»، مؤكداً عدم وجود ماركات عالمية للإيشارب في لبنان. وعن سبب اختيار أسماء أجنبية يقول: «لأن الأجنبي يجذب الزبونة أكثر من الاسم العربي!».
نتيجة الجولة في محال الإيشاربات تعززها جولة في أحد مقاهي الضاحية، هناك جمعت الطاولة أربع صبايا يرتدين «الحرير». بدا السؤال مستغرَباً من قبلهن. في رأيهن، «الغريب هو في عدم مجاراة الموضة ومستلزمات الأناقة»، تقول إحداهن: «هل المطلوب أن تكون المحجبة مبهدلة، كما هي الفكرة الراسخة في عقول الكثيرين؟». وتضيف: «ليس هناك في الشرع الإسلامي ما يمنع الإنسان من السخاء على لباسه ما دام مقتدراً مادياً». والصبايا مقتدرات كما يبدو من مظهرهن. هن يعملن جميعاً برواتب جيدة نسبياً، وبالتالي لا يمثّل ثمن الإيشارب عائقاً أمام اقتنائه. «للمناسبة، في السابق كانوا يتندرون بأننا نتحجّب لأننا لا نملك المال للذهاب إلى الكوافير. صدقيني أصبح تصفيف الشعر أرخص من ثمن الإيشارب»، تعلّق إحداهن.
في مكان آخر، وجدت فاطمة، التي قاومت الظاهرة طويلاً، نفسها منساقة إليها لاإرداياً بعدما أصبح الإيشارب المصنوع من القماش العادي «دقة قديمة». هي تحمّل المستوردين والتجار مسؤولية إغراق السوق بإيشاربات الحرير، حتى «لم يعد هناك إيشارب أنيق سوى ذلك المصنّع من الحرير، سواء الأصلي أو المقلّد، ومن لا ترتديه ستبدو أنها تعيش خارج الزمن!».
كثيرات دخلن لعبة الاستدانة و«التقسيط» لمجاراة موضة الحرير التي تتسارع بوتيرة عالية. عبير، المعلمة في مدرسة خاصة، تعترف بأنها «تصمّد» ثمن الإيشاربات، وفي بعض الحالات تشتري بالتقسيط. تدفع كل شهرين 120 دولاراً ثمناً لإيشارب. أحياناً كل شهر بحسب المناسبة، أو «إذا نزل شي جديد كتير حلو بحس إنو لازم إلبسو». على النقيض تماماً من هؤلاء الصبايا، تقول مريم إنها غير معنية بهذا «الجنون». هي ترتدي المنديل «تبع 8 آلاف ليرة» وتسخر من الوضع الذي آلت إليه الأمور. تسكت ثم تضيف كمن تذكّر أمراً «على كلّ اكتبي عندك الله يسترن من هالحالة، شي طبيعي مع هيك ظواهر يفلس شخص ويضيع معو مش بس مليارين دولار قولي عشرة»!.
ذات يوم كتب أحد شهداء المقاومة في وصيته ليحثّ أخته على ارتداء الحجاب «أختي حجابك أغلى من دمي». العبارة ضربت مثلاً، لكن «اليوم لا أحد يعتبر» كما يرى الحاج أبو علي، «فالحجاب لا يقوّم بثمنه»، مستغرباً تلك الظاهرة الغريبة على البيئة المتديّنة.


«إلو تاني»

يؤكد سهيل مرتضى، صاحب أحد المحال، استحالة وجود إيشارب في السوق «ما إلو تاني»، كما يوهم البعض زبوناته اللاهثات نحو التميّز. يعود السبب إلى كلفة القوالب التي تستخدم لطبع النقوش والألوان الباهظة الثمن و«يستحيل أن يصمّم قالب يبلغ ثمنه آلاف الدولارات من أجل إيشارب واحد، حتى لو بيع بألف دولار»