أنسي الحاجللمال السياسي، ومن أبلغ مقارعيه الرئيس سليم الحص، مفاعيل غير تلك المعروفة: لقد صنع أفواجاً من «الأبطال». كان اسم سوريا (أو النظام السوري) أكثر حرمة من الأسماء المقدّسة عند الأكثريّة الساحقة، إن لم نقل عند جميع أهل الصحافة العربيّة، وإذا بدم الرئيس الحريري يطلق الألسن ويعتق الصدور ويرخي العنان للشجاعة والشجعان. وكان 14 آذار وكان يجب أن يكون، لكنَّ الناس الذين تدفّقوا وهتفوا من أعماق صدورهم كانوا على الأرجح جاهزين دوماً لهذين التدفّق والهتاف لو قُيّض لهم زعماء يختصرون معاناتهم من قبل. كلّ السرّ هو في كلمتي «من قبل».
لئن كنّا، بالمنطق السياسي العجيب، نفهم «انتظار» الزعماء ثم «انفجارهم»، فكيف نفهم منطق الصحافيين؟ كيف أصبحت الصحافة فجأة لا تخاف؟
قبل بضعة أعوام تعرّض كاتب هذه السطور وصديق هو ضابط متقاعد وكاتب، الأول لمساءلة القضاء والآخر للمنع من السفر والمساءلة والتوقيف إثر مقالة له نشرتُها في «النهار» حول العلاقة بين أجهزة الاستخبارات اللبنانيّة والسوريّة. ولولا بضعة عشر مثقّفاً وإعلامياً اعتصموا أمام مبنى الجريدة احتجاجاً، لما سمعنا صوتاً. كان بيان نقابتي الصحافة أشبه بشدّ أذن المشاغبين أمثالنا ممَّن يريدون «تعكير علاقات الأخوّة». لم يجرؤ أحد على التضامن مع الصديق عدنان شعبان، رائد روّاد كَسْر المحرَّم يوم كان معظم أبطال الساعة ينتظرون دورهم على روزنامة عنجر.
للأمانة، يجب استثناء وليد جنبلاط. يصحّ القول إنه عضّ على جراحه. وَضْع جنبلاط، نظراً لاغتيال والده ثم ظروف الجبل وملابسات حرب الجبل ومضاعفاتها، أعقد وأشدّ مأسوية من الأوضاع الأخرى. وشجاعة جنبلاط يوم وقف في المجلس النيابي يطالب بإعادة انتشار الجيش السوري لم تنتظر رافعة كاستشهاد الحريري، بل جاءت هي نفسها رافعة للحريري ولسواه.
أمّا العماد عون، فالسياسيّون الذين يعيبون عليه اليوم قلّة صخبه ضدّ سوريا لم يكن أحد منهم يجرؤ على الاعتراف به عندما فتح النار في حرب التحرير ولم يبقِ في الصدور شبحاً إلاّ أفرج عنه. لم يستطع مدفع عون أن يحرّر لبنان لكنّه حرّر الكثيرين من الخوف واخترع بطولة فوق الهزيمة، رغم الانتحار العوني ـــــ الجعجعي في ما بعد. وقد لا نغالي إذا قلنا إن مصالحة عون مع النظام السوري لم تحجب وقفته المأسويّة تلك، وإنه مدينٌ برصيده أكثر ما يكون لتلك الوقفة، لرمزيّتها، وبصرف النظر عن دوافعها الشخصيّة ونتائجها الواقعيّة. وحتماً هي، وأيضاً على علاّتها، أكثر وطنيّة ونقاءً من مواقف طائفيّة ومذهبيّة يتّخذها التيّار العوني راهناً، تارةً لـ«حماية» حقوق المسيحيّين وطوراً لزكزكة السنّة.

■ ■ ■


كان هناك إجماع في المحيط العربي أن لا أحد يجرؤ على التعرّض للنظام السوري مهما فعل. وبلغ الزعم حدّ اعتبار هذا النظام قَدَراً لا يُردّ، فبُنيت على هذا الأساس سياسات وتحدّدت مصائر، وتشكّلت تربيات وتدمّرت نفسيّات، وتصدّعت تجمّعات كانت تبدو خالدة، وتبعثرت طوائف لم يقوَ شيء عبر العصور على زحزحتها. إلى أن جاء التفويض المعاكس.
لمزيد من الدقّة، ليس هو المال السياسي وحده، وإلاّ كان نسيانه سهلاً، ذلك بأن المال يَنسى، فلمَ لا ينسى المرتشي أنه قبضه!؟ غير أنَّ قبله وبعده التفويض. كلمة السرّ. الإشارة. تلك التي تُسمّى تارةً «إرادة الشعوب» وطوراً حتميّات التاريخ، وقد أَرَتْنا معاصَرَتُنا للأحداث أنها ليست إلاّ إدارة خارجيّة لبيادق داخليّة، حيناً تستغلّ التناقضات والأزمات المحليّة لتأخذها حيث تريد، وحيناً تفتعل الأزمات افتعالاً لتصل عبرها حيث تريد. وقد اكتوينا من الضحك علينا حتّى صرنا في مبالغاتنا نرى أن كلّ التغيّرات السياسيّة، من الحاضر إلى الماضي، وفي دول العالم كلّها، تمثيليّات من فوق، الحقيقة الوحيدة فيها دم الضحايا.
انحداراً حتّى أصغر الشؤون. كتأليف حكومة. وحتّى أصغر الأصغر، كحقيبة الاتصالات. وكلّها تغطيات للتلاعب الأميركي السعودي السوري الإيراني. ولا الاهتمام «الشعبي» يؤثّر ولا عدمه. وحتّى الاهتمام الشعبي لو تبلور، مثلاً، في تظاهرة فمَن سيصدّق، بعد، أنّها عفويّة؟ من فرطِ التبعيّة والاستعمال بتنا نشكّ حتّى في كون حوادث السير قضاءً وقَدَراً!
السؤال ليس لماذا انطلقت الحناجر في آذار 2005، بل لماذا لم تنطلق من قبل. وما العلاقة بين الاكتشاف الأميركي العجائبي لوجوب تحرير لبنان من «الوصاية» السورية (الأميركيّة) واغتيال الحريري؟

■ ■ ■


ليس كلّ الذين تحرّكوا بيادق، فبينهم صادقون، لكنّ الأكثريّة الساحقة من الرؤوس، في هذا الطرف أو ذاك، لم تتكلّم ولا هي اليوم تتكلّم من ذاتها. إن هذا أكثر ما يحزّ في النفس وأبلغ ما يزعزع ثقة الإنسان بأرضه. إن جوهر الحريّة داخليّ، يكاد يكون هو والنفس توأمين، وعندما يتسرّب الاستعمال الخارجي إلى ذلك الجوهر ويتلاعب به مباشرة أو بالواسطة، تُرتكب بحقّ الإنسان واحدةٌ من أبشع الجرائم.
الذين استكانوا للحكم السوري في لبنان طاوعوا القويّ، ومطاوعةُ القويّ إذعان. البطولة هي في مطاوعة الضعيف، والضعيف ليس الدولة اللبنانيّة فحسب، بل كلّ فريق لبناني في وجه الفريق الآخر.
تنافُرُهم ارتماءٌ في أحضان الدول، وتحالفهم وحده شجاعة. ولا قيمةَ لحجّة يتذرّع بها أحدهم للانشقاق، فكلّها أكاذيب لتمويه التبعيّة.
من السهل العثور على مفاتيح للفتنةِ والخراب، ومن أصعب ما يكون ترميم النفوس. يمكن تضميد جروح الشعب وتجليس معنويّاته مراراً وتكراراً في التاريخ، ولكنْ حين يصبح التاريخ سجلّاً متواصلاً للارتهان والاستقالة الوجدانيّة والتقويض الروحي والمادي تصبح المداواة أشبه بالمعجزة.
وحين يغدو الشرف لفظة للضحك لا يعود هناك أسهل من التلاعب بالقيم، جميع القيم، خصوصاً وسط انهيارٍ عام أشمل وأوسع.
لا بدّ من مجترحي معجزات وليس في لبنان اليوم غير مرتكبي مخالفات وفظاعات. ولا بدّ من تضحيات وليس في السياسة اللبنانيّة اليوم نبلاء. لبنان الصغير كان وما زال وسيبقى بحاجة ماسّة إلى الكِبَر، وليس في مشهده السياسي اليوم كبير.


عابرات

إنّه لا ينام حتّى يظلّ مسيطراً على أحلامه.

■ ■ ■


«الليلة الفائتة أبصرتُ مناماً بديعاً، لا تدعوه يفوتكم».
(غروشو ماركس)

■ ■ ■


الاستهتار، مع طمع ضمنيّ بأن يكون هناك مَن يحمينا ويحفظ حقوقنا ولو رَفَضْنا حمايته.

■ ■ ■


الخَرَف طفولة أجهزتْ عليها إصلاحيّة المراهقة فمعتقل الرشد فزنزانة الكهولة.

■ ■ ■


«المجنون والكاتب شخصان يبصران هاوية، ويقعان فيها».
(بلزاك)

■ ■ ■


الرغبة في الإعجاب مع انعدام الجرأة لتنفيذها، ضعفٌ ينقذ من ضعف.

■ ■ ■


الحياةُ نسمةٌ ظاهرة والموت نسمةٌ خافية.

■ ■ ■


فَرْط ما صدْقه يوجِع، تتمنّى لو أنّه لا يمضي في صدقه!

■ ■ ■


وضع دانتي على باب الجحيم هذا البيت:
«أنتَ الداخل إلى هنا، اتركْ كلَّ أمل».
وعلّق نيكولا دو شامفور قائلاً:
«لم أعرف السعادة إلاّ عندما فقدتُ الأمل. البيت الذي وضعه دانتي على باب الجحيم أضعه أنا على باب الفردوس».