جمال جبرانفي مجتمع غير متصالح مع نسائه، كالمجتمع اليمني، يصبح حلم أيّ فتاة بتحقيق ذاتها ضرباً من ضروب المستحيل. الأنثى، تُعامَل كعيب مقيم في حلق العائلة، و«حُرمة» لا يستقيم حالها إلا بالزواج والسترة. لكن الطفلة اليتيمة أمة العليم، المولودة وسط تلك البيئة الملغومة، حدّثت نفسها طويلاً وهي تسير على طريق المدرسة الترابي، وقطعت عليها عهداً: «سأكون يوماً ما أريد». كانت تملك العزم للمضيّ في الرهان إلى النهاية، رغم أنّ فكرة استمرارها في الدراسة كانت عُرضةً للإجهاض في أي لحظة. نجحت في تخطي عقبات كثيرة، معتمدةً على سندين كبيرين: أم عظيمة وحلم لم يتوقف يوماً عن النموّ داخلها.
بعد وفاة الأب، رفضت والدتها العودة إلى بيت أهلها، كما تقضي التقاليد اليمنيّة. إذ تحميها تلك الخطوة من «ألسنة الناس»، الجاهزة للنيل من أرملة تسكن وحدها. قاومت تلك السيدة، ولم تبالِ بالنظرات الجارحة من حولها، فأرسلت أولادها إلى المدارس، وبعثت بعضهم للدراسة في الخارج.
بدأت أمة العليم ترسم صورتها كفتاة استثنائية منذ طفولتها. هكذا، ذهبت ضمن مجموعة مكوّنة من عشرين طفلاً إلى الإذاعة المحلية، من أجل المشاركة في مشروع غنائي للأطفال... وكانت البنت الوحيدة بين كل أولئك الصبيان. نجحت أمة في الاختبار، لكنهم أخبروها أنها لن تستطيع الغناء ولا الوقوف أمام ميكروفون الإذاعة.
في وقت لاحق، دخلت في فرقة المرشدات، وكانت قائدة على أكثر من ألف فتاة، كن يقمن بغرس الأشجار، وتنظيف القبور وزيارة المستشفيات، ومن ضمن مهمّاتهن زيارة المرافق الحكوميّة. وفي إحدى المرات، زارت مبنى التلفزيون وهناك... طلب منها مديره تقديم نشرة الأخبار. كانت تنهي عامها السادس عشر، ولم تنسَ بعدُ حلمها بميكروفون الإذاعة... وجدت نفسها فجأةً ليس أمام ميكروفون فقط، بل أمام الكاميرات أيضاً... ظهرت كما هي، على هيئتها الطبيعية، من دون شعر مصفف ولا ماكياج، «في مخالفة صريحة لنظام العمل في التلفزيون المحكوم بمتطلّبات مساحيق التجميل» تقول. أغرقتها المفاجأة في الخجل، وحاولت العثور على ثغرة تستطيع الفرار عبرها، لكنهم لم يتركوها. «في صباح اليوم التالي، كان الجميع يتحدث عن البنت السمراء التي قرأت نشرة الأخبار»، تتذكّر.
بالمصادفة إذً بدأت حياتها في الإعلام، وأكملتها أكاديمياً. سافرت إلى القاهرة ودرست الإعلام في جامعتها، ما أتاح لها التدرّب في إذاعة صوت العرب. بعد ذلك انتقلت إلى واشنطن، حيث تابعت تحصيلها العلمي، ونالت ماجستير في الاتصالات الدولية من «الجامعة الأميركيّة» عام 1984. عندما عادت إلى اليمن، عملت مقدمة ومخرجة برامج، ثمّ نائبة لمدير البرامج في «محطة صنعاء التلفزيونيّة»، لتكون أوّل امرأة تتبوأ هذا المنصب. ثمّ عيّنت وكيلةً لوزارة الإعلام كأول امرأة أيضاً (أقلّه في الشطر الشمالي سابقاً)، وشغلت هذا المنصب بين 1997 و1999. في تلك المرحلة أيضاً، رأست تحرير مجلة «متابعات إعلامية» أول مطبوعة يمنية تهتم بشأن الإعلام والاتصال. وفي عام 2000، عُيِّنت سفيرةً لليمن لدى السويد والدنمارك وهولندا، وهو كذلك أول منصب دبلوماسي رفيع تتولاه امرأة في اليمن. كثيرة هي مفردة «أول امرأة» في حياة هذه السيدة...
في عام 2003، دخلت الحكومة في بلادها وزيرةً لحقوق الإنسان، وكان من الصعب عليها أن تتأقلم مع منصب مُستحدَث في بلد ما زال يشهد مظاهر منافية لمفهوم الحقوق من أساسه، مثل السجون الخاصة التابعة لشيوخ القبائل. تلك الزنازين ما زالت مفتوحة، وتعلم السلطات بوجودها، من دون أن تتّخذ أيّ إجراء لوقفها. «وهناك ما هو أشد» تقول. ثمّ تضيف متذكّرة مصاعب الميدان الذي خاضت فيه: «في لحظات كثيرة، كنت على قاب قوسين أو أدنى من مغادرة العمل في الشأن العام نهائياً. قلت يكفي، سأتوقف». لم يكن مستغرباً، والحالة تلك، أن تغادر تلك الوزارة بعد أول تعديل أطاح الحكومة.
لم يطل الوقت كثيراً، لتجد نفسها في آذار (مارس) 2006 على موعد مع منصب دولي رفيع، نجحت في تبوّئه عبر دخولها في مسابقة دولية مفتوحة لا يد للحكومة اليمنية في الترشيح لها. بفضل خبراتها المتشعبة، أصبحت اليوم الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، والمدير الإقليمي لـ«برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» في الدول العربية، على رأس فريق عمل مكوّن من 500 موظف يعملون في 17 مكتباً في المنطقة العربيّة.
اليوم، تتنقّل أمة العليم من دون توقف بين دولة عربية وأخرى للقاء الرؤساء والشخصيات، ومتابعة ملفّاتها ومشاريعها، وممارسة مسؤوليات المنصب الذي تشغله. وعندما يأتي دور اليمن، لا تكون مجرد مناسبة لزيارة بيتها الأول. هي تعلم أن دورها مضاعف هنا: القيام بمهمّات منصبها كموظفة دوليّة من جهة، وإحساسها الفطري بوطنها المقيم في دائرة خارج الزمن. تراها تضرب مواعيد مع المسؤولين عن التنمية وصولاً إلى رئيس الجمهورية. تسأل وتستفسر وتطرح حلولاً في إطار المشاريع التنموية التي يُشرف عليها «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي».
«سأكون يوماً ما أُريد» قالتها الطفلة اليتيمة ذات يوم، وعرفت كيف تتلاعب بقدرها وتُطوّعه، وكان لها ما أرادت. وماذا بعد؟ يصعب أن نختم حديثاً مع سيدة تتحدث أربع لغات (الإنكليزية والروسية والفرنسية إلى جانب العربيّة) وتبدو على عجلة دائمة من أمرها. تجربتها واسعة إلى درجة تكفي لتدهش وتلهم جيلاً كاملاً من الشابات اليمنيات والعربيّات. أمّا هي فتقول: «ما زلت في بداية الطريق. هناك الكثير أمامي». ولا تنسى أن تضيف: «كل ما أنا فيه اليوم كان بفضل أمي». تخرج من مقابلتك مع أمة العليم السوسوة وأنت تفكّر في أن السبيل الوحيد إلى نهضة العرب هو أن تحكمهم النساء...


5 تواريخ

1958
الولادة في تعز (اليمن)

1984
حازت ماجستير في الاتصالات الدوليّة من «الجامعة الأميركيّة في واشنطن»، ثم عيّنت نائبة لمدير البرامج في «محطة صنعاء التلفزيونيّة»

1997
أول امرأة يمنيّة تُعيّن وكيلة لوزارة الإعلام في بلادها. بقيت في منصبها حتّى عام 1999

2000
أول سفيرة أنثى لبلادها في السويد والدنمارك وهولندا. بعدها بثلاث سنوات عيّنت وزيرة لحقوق الإنسان في اليمن

2009
أطلقت من بيروت في تموز (يوليو) الماضي، تقرير «التنمية البشريّة العربية»