تعدّ الخطيفة متنفّساً لما تتشدد القوانين الاجتماعية فيه، وهي مثل ظواهر كثيرة، تزداد حيناً وتخبو حيناً آخر، تبعاً للأوضاع المادية وللتشدّد الديني. وفيما يرى الشباب في الخطيفة ملاذاً أخيراً، يعدّها أهل الفتاة أمراً مهيناً يستلزم الجزاء، وأهل الشاب عصياناً يقتضي المقاطعة. وفي البقاع، في ظل الأزمة المعيشية والتجاذبات الطائفية، يزداد اللجوء إلى الخطيفة، بل إن البعض أقدم على خطف نساء متزوجات
البقاع ــ رامح حميـة
«لا نصيب لك عندنا»، لسبب ظاهر أو لآخر، يقولها أهل الفتاة لمن تقدم طالباً يد ابنتهم، فيستدير على عقبيه خائباً باحثاً عن حل للحصول على حبيبته. فإن لم يجد، عندها يصبح «لكل حادث حديث»!. قد يأتي الرفض من قبل أهل العريس أنفسهم، فيرفضون طلب يد العروس المختارة، فلا يبقى أمام المتحابين إلا ..«لكل حادث حديث». وأي حديث سوى حقيبة ملابس تُملأ بالضروريات على عجل، وساعة صفر يعقبها رحيل من دون وداع. بعبارة أخرى «الخطيفة».
ظاهرة «زواج الخطيفة» متفشّية في البقاع، وقد ارتفعت نسبتها الصيف المنصرم ارتفاعاً كبيراً ولافتاً، إذ لا يكاد يخلو أسبوع من خبر «خطيفة» من هنا أو هناك. وبعض العائلات ردّوا على خطف ابنتهم بخطف شخصين من عائلة الخاطف، وتهدّد الأمور بالتفاقم. فالظاهرة لم تعد تقتصر على العازبات، بل امتدت لتشمل نساءً متزوجات، ليصل عدد هذه الحالات إلى 6 في غضون 3 أسابيع، في عدد من قرى البقاع.
موانع دينية؟ فوارق اجتماعية؟ خلافات عائلية؟ تناقض في العمر أو المستوى؟ أسباب وحواجز شتى قد تمنع التقاء الحبيبين، فيحصل الصدام. وتبقى نتيجة «الخطيفة» الحتمية: بالنسبة إلى الأهل إهانة للعائلة، تستلزم الجزاء والعقاب. أما بالنسبة إلى العريس والعروس، فتحقيق للذات وإثبات لحرية الاختيار.
هذا العمل يفضي أحياناً إلى القتل والثأر بين عائلتي الطرفين
«لو خضت حرباً... فلن أغيّر رأيي، وقراري كان أريدها زوجة لي!»، يقولها علي باستياء، مدافعاً عن زواجه ـــــ الخطيفة من «ميادة» (درزية)، إذ كان المانع الديني عائقاً أمام الزواج. فلا الشرع الإسلامي يرتضيها زوجة له ما لم تشهر إسلامها قبل عقد القران، ولا الطائفة الدرزية تسمح لها بالزواج منه»... والقلب العاشق أيضاً غير قادر على الاستسلام لهذه الموانع التي لا ترحم... لذا كان قراري»، يقول علي. تتدخل ميادة مع ابتسامة خجولة: «لأنو الحب كان صادق بيناتنا، رحت خطيفة». الجامعة اللبنانية في زحلة جمعتهما منذ السنة الأولى، حيث كان الحب يزهر في قلبيهما»، وفي البال طبعاً عقبة الدين والتقاليد»، إلى أن كانت المواجهة قبل التخرّج من قبل الفتاة، بأنه «لا مجال لطلب يدها نهائياً، لأن ذلك سيمنعها من الذهاب إلى الجامعة». علي في المقابل، بعد إزالته للعوائق عند أهله، «بعدما لمسوا إصراري على الفتاة الوحيدة التي أحببتها وأريدها للزواج»، كانت ساعة الصفر على مقربة من منزلها. بعد أن هيّأت ميّادة نفسها ووضّبت بعض الأغراض على عجل، انطلق الاثنان «تجاه المجهول». المجهول لم يكن بالنسبة إلى علي وميّادة إلا حياة زوجية سعيدة، لا ينغّصها إلا زيارات أهل «ميّادة» المقتصرة على «المناسبات الخاصة جداً». حالة الخطيفة الثانية جمعت بين حسن وفاطمة اللذين تزوّجا منذ شهر تقريباً، وكانت مسألة «الدخل المادي القليل» للعريس العقبة الأساس في وقوف أهل الفتاة ضد تزويجها به، فكانت الخطيفة. ويؤكد حسن أن فاطمة رفضت الخطيفة في البدء، طالبة «أن أتقدم أوّلاً لطلب يدها»، وعندما يرفضون، «لكل حادث حديث». وبسبب الفروق الاجتماعية، كان الرفض الذي مثّل الدافع لعملية خطيفة بسيطة تطلّبت سيارة ومكاناً التُجئ إليه، بانتظار حل المشكلة.
أما في الحالات القصوى، فتسجّل المخافر فرار عروس في اليوم التالي لزفافها مع شاب تحبّه، في إحدى قرى البقاع الأوسط. وهناك حالة الزوجة التي تخلّت عن زوجها وأولادها، لـ«زواج» خطيفة مع شاب صغير في العمر. كذلك سجّلت المخافر حالة سمر (اسم مستعار) التي تخلّت عن زوجها وولديها وهربت خطيفة مع شاب من التابعية السورية، وفي حوزتها مبلغ 20 مليون ليرة وسيارة كان الزوج قد منحها إياهما قبل فترة. القوى الأمنية تمكّنت من القبض على الفارين بموجب دعوى مقدّمة من الزوج، وهما لا يزالان في السجن. الزوجة أكدت في التحقيقات الأمنية أنها أقدمت على هذه الخطوة لأن زوجها يتأخر ثمانية أيام في خدمته العسكرية!
وبغض النظر عن الحالات الأخيرة الجرمية، فإن العريس يقع، بعد خطف عروسه، أسير التقاليد العائلية، حيث يفترض به اللجوء إلى «الأجاويد» من المصلحين ذوي القوة العشائرية، ما يسمح بتدخّلهم والسعي نحو حلّ يرضي الطرفين.
علي حميّة (70عاماً) عدّ الخطيفة «عملاً دنيئاً، يقدم عليه العريس لمجرد حصول أي عائق أمامه»، رافضاً رفضاً قاطعاً هذا العمل الذي يفضي في كثير من الأحيان إلى القتل والثأر بين الطرفين. لكنّه في المقابل يرى أن الخطيفة عندما تحصل لا مجال بعدها للتراجع، ولا يبقى سوى المسارعة إلى «رأب الصدع، حتى لا يقرر أهل الفتاة ردّ الصاع صاعين». ولفت إلى أن هذه الأيام تشهد ازدياداً في الخطيفة، وصلت تداعيات إحداها حدّ اختطاف عائلة الفتاة المخطوفة لشخصين من عائلة العريس، ما استدعى تدخّل إحدى الجهات الحزبية لإعادتهما، مشيراً إلى تمكّنه من حلّ العديد من حالات الخطيفة بمساعدة فعاليات المنطقة. لكنّه لا ينكر أنّ حالات أخرى استعصت بسبب تشدّد بعض العائلات، التي غالباً ما تعلن أنه لا سبيل للصلح قبل إرجاع الفتاة، أو على مبدأ «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم»، أو حتى طلب إحضار فتاة من عائلة الشاب الخاطف لذوي الفتاة المخطوفة، وعملاً بمبدأ «العفو عند المقدرة»، حيث يمكن إعادة الفتاة إلى أهلها أو تُزوّج بأحد أفراد العائلة، ويتمّ الصلح.
جعبة الخطيفة في القرى البقاعية لا تنضب، تبقى على ما يتخلّلها من بعض التأزيم والتصعيد، متواضعة ومسالمة، قياساً إلى حالات أخرى لم تثمر جهود سعاة الخير، فتحوّلت من أفراح إلى أتراح، وخلّفت ثارات وأحقاداً بدلاً من الصبيان والبنات.