ورد كاسوحة*لكن خصوم اليوم، بخلاف خصوم الأمس «ديموقراطيون». لذا، فإنّ حججهم ـــــ وإن تكن غير مقنعة كفاية ـــــ فإنها تخوّلهم بفعل صدورها عن «سلطة شرعية ومنتخبة» أخذ ناخبيهم العراقيين إلى حيث يريدون، حتى ولو كان هذا المكان هو «الجحيم بعينه». وما زاد الطين بلّة هذه المرّة تصريحات المالكي المستفزّة للغاية. تصريحات أتت لا لتمسّ أمن النظام في سوريا وحسب، بل أمن الشعب السوري أيضاً. فلو كان الأمر محصوراً بالنظام وأمنه، لجرى تداركه كما حصل من قبل مع خصوم النظام في لبنان. لكن الضرب على وتر أمن البلد أثار حفيظة السوريّين جميعاً، بمن فيهم معارضون للنظام. ويبدو أن إيواء سوريا (البلد والناس) لأقطاب المعارضة العراقية السابقة لم يشفع لها عند الرجل، ولم يثنه عن توجيه كمّ من «العداء» إلى الشعب السوري، أين منه «العداء» للنظام وملحقاته. فالقول إننا قادرون على «معاملة السوريين بالمثل» (وهو كالقول إننا قادرون على «تفخيخهم») يشي بحجم المأزق الذي وصل إليه عرّاب «العملية السياسية» في العراق. وهو المأزق نفسه الذي دفعه إلى اللعب على الوتر الكردي الحسّاس لدى الأتراك ووسيطهم أحمد داوود أوغلو. وكان لافتاً جداً في هذا السياق أن يربط المالكي بين دعم «نظام بشار الأسد» للبعثيّين العراقيين الموجودين في دمشق، ودعم «نظام والده» لعبد الله أوجلان إبّان الأزمة مع تركيا في التسعينيات. هذا «الخبث» المستجد لدى أرباب «العملية السياسية» في العراق لم يأتِ من فراغ. فضراوة «الحرب الدائرة هناك» باتت تتطلّب من هؤلاء أن يخلعوا قفّازاتهم، ويتمثّلوا حرفياً بسلوك مرجعياتهم في واشنطن وطهران. هم ليسوا بأقلّ من الأميركيين والإيرانيّين، ولا تنقصهم الخبرة أو الحنكة لحبك «الدسائس والمؤامرات» كما يفعل رعاتهم، وخصوصاً بعد ظهور «عرّابهم» بمظهر «رجل الدولة» على ما يقول بعض «الليبراليين»، و»تطهيره» البلد من الميليشيات الشيعية والسنية وفرضه «الأمن والاستقرار» بالقوّة. وقد جاءت التفجيرات في بغداد لتربكه وتنال من هيبته. وما دامت الهيبة على المحكّ فلا بدّ من تغيير أساليب التعاطي مع من ينتقص من هذه الهيبة. وهؤلاء موجودون فقط في سوريا، كما يقول المالكي! وغضّ الطرف عن وجودهم في إيران والسعودية واليمن وباقي دول الخليج ليس عبثاً. فالعبوات الناسفة التي «تصنّع في سوريا» وترسل إلى العراق تختلف عن مثيلاتها في الرياض وطهران، وبالتالي التعامل معها ومع مصنّعيها لا بد من أن يكون مختلفاً! وقد جرى تعميم هذه الرواية المتهافتة على كل الدوائر السياسية والإعلامية المرتبطة بالحكومة العراقية، والالتزام بها كان حرفياً من طرف الجميع عدا بعض الاختراقات التي كان نائب الرئيس العراقي عادل عبد المهدي المحسوب على إيران أحدها (تبعه في ذلك المجلس الرئاسي المتعدّد الولاءات). ولكونه قد خرق الإجماع القسري غير المسموح باختراقه أصلاً، جرى التصويب على الرجل من طرف البعض، ووضعه في مواجهة خيار الشعب العراقي! هكذا وبكل بساطة يقف الشعب العراقي «المنقسم على ذاته» صفاً واحداً في مواجهة الهجمة البعثية التكفيرية الآتية من وراء الحدود! قد يكون هذا الاصطفاف حاصلاً في صفوف بعض العراقيين، ولكن في ظل انقسام عمودي كالذي يشهده العراق لا يمكن تخيل «إجماع عراقي» من هذا القبيل، وفي مواجهة من؟ في مواجهة سوريا (البلد والناس) التي يحتضن أهلها اللاجئين العراقيين، كما لم يحتضنهم أيّ بلد آخر (هذه ليست منّة بل هي واجب أخلاقي على كلّ الأحرار في العالم).
يحار المرء أحياناً في تفسير الخلفيات التي تحرّك رجال أميركا في العراق. ويحار أكثر عندما يرى المصير الذي يريدون أخذ الشعب العراقي إليه. لقد بدا للبعض بعد الانتخابات المحلية الأخيرة أن المالكي «جادّ» في مشروعه لدفن الائتلافات الطائفية التي تتغذّى على الدعم الإيراني والسعودي والأميركي والسوري. لكن خطوته الأخيرة تجاه سوريا أحبطت هذه الآمال وبدّدت الأوهام التي يعقدها البعض عليه، ظناً منهم أنه قد تجاوز تحالفه الذيلي مع إيران وأميركا، ومضى إلى تأسيس «وطنية عراقية جديدة» خارج الاصطفافات الطائفية والمذهبية.
لقد بدا الرجل في اتهاماته الأخيرة مزايداً على المجلس الأعلى والصدريين في نعوتهم «لحلفاء» سوريا والسعودية. واللهجة التي استخدمها في وصف البعثيين (وبعضهم «متورّطون» في ما يحدث) تنمّ عن «كيدية سياسية» تجاه شريحة كبرى من العراقيين. شريحة قد يختلف المرء مع نهجها السياسي وطريقة مقاربتها للشأن العراقي، ولكن هذا الاختلاف لا يجوز أن يأخذ منحى كيدياً ومفرطاً في تمذهبه كما فعل المالكي وأعوانه. فاتهام البعثيين جملة وتفصيلاً «بالإجرام» و»القتل العشوائي» من دون إقامة الدليل والحجة على ذلك، ومن دون التمييز بينهم وبين تكفيريي القاعدة لا يختلف في شيء عن الاتهامات التي كان يسوقها صدام حسين لخصومه السياسيين قبل تصفيتهم. وبدلاً من معالجة الأمر برويّة وهدوء ووضعه في سياقه القانوني تهرب الحكومة العراقية إلى الأمام، وتلجأ إلى «هرطقة قانونية» تسمّيها «محكمة دولية». وكأننا أمام سيناريو تفجيري شبيه بذاك الذي فجّر الوضع في لبنان قبل أربع سنوات. أي قعر ذاك الذي تأخذنا إليه أنظمة فاقدة للشرعية وللرؤية الاستراتيجية في آن واحد.
وما دمنا قد أتينا على ذكر الرؤية الاستراتيجية، فلا بد من سؤال حكّام العراق الحاليّين عن رؤيتهم الاستراتيجية للمرحلة المقبلة، وخصوصاً في ما يتعلق بالعلاقة مع دول الجوار؟ هل يجب أن تبقى هذه العلاقة محكومة بالريبة والخوف من التدخلات السلبية؟ وإذا كانت هذه التدخلات ذات مردود سلبي ومدمّر فعلاً فلماذا يتمّ التعامل معها انتقائياً، ويجري التصويب على التدخلات السورية، فيما تعفى التدخلات الأميركية والإيرانية والسعودية من حصتها في الإدانة؟ ألا يذكّرنا هذا السلوك المعياري المزدوج بنهج البعث العراقي أيام صدام حسين؟ البعث الذي يدينه اليوم المالكي وينعته بأقذع الصفات! واستطراداً ما هي مصلحة الشعب العراقي في ما تقوم به حكومته تجاه سوريا؟ وهل فكّر السيد المالكي في أنه بسلوكه الأرعن إنما يستعدي شريحة لا بأس بها من السوريين (حتى لا نقول كلّ الشعب السوري)!
التلويح بالقدرة على «الردّ بالمثل» و»تفخيخ سوريا» أمر اختبره «السوريون» سابقاً مع شخص وليد جنبلاط، عندما كان يقود معركة إسقاط النظام السوري. وهشاشة هذا الاختبار يجب أن تدفع بالمالكي إلى مراجعة حساباته جيداً، تماماً كما يفعل وليد جنبلاط هذه الأيام. فالمقارنة بين موقعي الرجلين في مواجهة سوريا لا تصبّ حتماً في مصلحة المالكي، لكونه يفتقد إلى الظهير الاستراتيجي الذي كان يزوّد وليد جنبلاط «بعدّة الشغل». أما اليوم، فجلّ اهتمام هذا الظهير (الأميركي طبعاً) ينحصر في توفير انسحاب آمن لقواته المحتلة، وفق بنود الاتفاقية الأمنية التي وقّعها مع المالكي نفسه. وأكثر ما يلفت في شأن المقاربة الأميركية للخلاف العراقي ـــــ السوري برودتها، وتركها إدارة الخلاف لبيادقها في

اتّهامات المالكي لا تختلف كثيراً عن عدّة الشغل التي كان يعهد بها صدام حسين إلى حاشيته
العراق، فآخر ما يتمنّاه الأميركيون في هذه المرحلة الدقيقة الزجّ باسمهم في خلافات يريدون لها أن تبقى محصورة في إطار الصراع ما بين العراق وجيرانه. فبعد انسحاب القوات الأميركية من المدن ومن المواجهات المباشرة مع «المقاومة العراقية» بات من السهل على المراقب غير المحايد تحميل النفوذين الإيراني والسوري مسؤولية كل ما يحدث من تفجيرات في هذا البلد. ولم تكن هذه الرؤية المتحيّزة «لتسود» وتبصر النور لولا أمران اثنان: أولاً: تمدّد النفوذين أعلاه بوضوح وملؤهما الفراغ الاستراتيجي العراقي، من دون أن يكون لهذا التمدّد بالضرورة انعكاسات تدميرية فورية على النسيج العراقي، كما تشيع الماكينة الدعائية الأميركية وملحقاتها. ثانياً: تظهيرهما من جانب هذه الماكينة الدعائية بمظهر المخرّب «الوحيد» لسير «العملية السياسية». إذ لا مكان في هذه البروباغندا المبتذلة للسعودية وملحقاتها، أو للموساد الإسرائيلي وحلفائه الإقطاعيين في كردستان (لا يد للشعب الكردي في ما يحصل هناك). فقط إيران وسوريا هما من يعرقلان سير «العملية السياسية» «الليبرالية» الجارية. عملية تجري بهدوء وسلاسة وبرضى كامل من كل أطياف الشعب العراقي! إنها «يوتوبيا أوباما» وقد غدت السياسة الوحيدة للحكومة العراقية والإعلام الموالي لها (والأصحّ المتواطئ معها). سياسة بائسة وعديمة الخيال وتفتقر إلى أي بعد استراتيجي، كما يفترض بأي سياسة تابعة أن تكون (تماماً كسياسة محمود عباس المناوئة للاستيطان الإسرائيلي! راجعوا خطابه الهزيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة أخيراً!).
ومن يتابع سير هذه العملية المزعومة في العراق يعرف جيداً أن التصويب عليها ليس ممنوعاً فقط، بل يكاد يكون الممنوع الوحيد في هذه المرحلة، بعدما أسقطت «المقاومة العراقية» كل أوهام المرحلة السابقة، ولم يبقَ للأميركيين وأتباعهم في العراق إلّا هذا الوهم ليتمسكوا به، ويرفعوه عنواناً لحقبة الانسحاب المتدرّج من بلاد الرافدين.
ويمكن إدراج التصويب (بالواسطة) على الدور السوري في هذا السياق تحديداً، على اعتبار أن النظام في سوريا يحتضن لأسباب مختلفة (منها حصّته في الكعكة الإقليمية الجديدة) أكثر المعارضين «للعملية السياسية» الجارية، وخصوصاً أولئك القادرين على «تعطيل» (ليس بالمعنى السلبي الذي ترتديه هذه الكلمة في لبنان) تلك العملية، والحدّ من قدرتها على التأثير السلبي في مستقبل العراق.
* كاتب سوري