علي يوسف *في سياق نقاش ما كتبه الزميل إبراهيم الأمين عن إقدام جريدة «النهار» على صرف موظفين، من زاوية مختلفة عمّا كان يجري حتى الآن في حالات مماثلة، بحيث أخرجها من حالة خاصة إلى شأن عام، وهي كذلك، فإن الأسئلة تستفز لبدء طرح موضوع الصحافة والإعلام في لبنان كقضية لم تأخذ حقها من البحث منذ سنوات طويلة. ولم يكن لما يحدث في «النهار» أن يطرح على أنه شأن عام إن حدث، وهو يحدث، في صحف أخرى بعضها أشبه بدكاكين إعلامية، للأسف، وذلك نظراً لكون «النهار» أعرق مؤسسة إعلامية استطاعت حتى وقت قريب، بغض النظر عن سياستها العامة، الحفاظ على تنوّع مثّل نموذجاً يسعى إليه كل مَن يريد بناء مؤسسة إعلامية متميّزة وقابلة للحياة. إلا أن المشكلة الحاصلة في «النهار»، نظراً لأسماء الموظفين المصروفين، تشير بوضوح إلى عدد من المشكلات التي يواجهها الإعلام عموماً والصحافة خصوصاً، والتي هي بحاجة إلى بحث معمّق يجب البدء به واعتباره شأناً وطنياً تتشارك فيه النُخَب الفكرية والسياسية والمهنية والنقابية على اختلافها.
ويجب القول إن مسؤولية نقابتي الصحافة والمحررين أساسية في هذا المجال وتتحملان مسؤولية تقصير فادح يصل إلى حد الخطيئة، إلا أنه للأسف يأتي نتيجة أن ما أصاب الإعلام في لبنان أصاب النقابتين المعنيتين به والجسم الإعلامي من مشكلات أهمها:
1ـــــ مشكلة الامتيازات والتراخيص:
إن التوقف عن إعطاء امتيازات جديدة للصحافة السياسية رفع أسعار هذه الامتيازات إلى مستويات خيالية حصرت القدرة على امتلاكها بأصحاب الثروات وحوّلتها كما أشار الزميل الأمين إلى «إقطاع إعلامي أين منه الإقطاع السياسي والمالي».
كذلك، إن توزيع التراخيص للإعلام المرئي والمسموع على المؤسسات السياسية الطائفية والسماح بالتحايل على القانون الموضوع لهذا القطاع بما يمنع اختراقه من الإعلام الحر يؤدي إلى حال الصحافة السياسية نفسها، بل أسوأ منها. وهذا كله يحوّل الإعلام إلى أداة سلطة وتسلط أبعد ما تكون عن الإعلام الحر وتفقده دوره النهضوي وتبعده عن دوره في المساعدة على تكوين رأي عام حر مرتبط إلى حد ما بـ«الحقيقة النسبية» والتنوّع وتجعله كما في الأنظمة البوليسية أداة «غسل دماغ» ونشر التعصب الطائفي والمذهبي يُسهم في تدمير ما بقي من البنيان الوطني.
2ـــــ مشكلة التمويل:
من المتعارف عليه أن المؤسسات الإعلامية في لبنان غير قادرة على توفير التمويل الذاتي الكافي للسماح لها بالاستمرار والتطور. ومعروف منذ القدم أن لكل مؤسسة إعلامية على اختلاف نوعها مصادر تمويل خارجة عن حركتها الذاتية، إمّا رجال أعمال أو مؤسسات أو دول، والأخيرة هي الأكثر فاعلية، بحيث تفقد المؤسسة الإعلامية حريتها التي تتغنّى بها.
إلا أن طبيعة الانقسامات السياسية على الصعيدين الإقليمي والداخلي التي حصلت منذ عام 1975 المستمرة حتى الآن خفّفت القدرة على تنوّع مصادر التمويل، إن لم نقل ألغتها، وجعلت من المستحيل التخفيف من ضغط مصادر التمويل على وجهة المؤسسات الإعلامية بحيث تراجعت الموضوعية والحرية النسبية لمصلحة الانكشاف الحاد الذي نشهد أشد مراحله حالياً.
وخلال كل هذا الوقت الممتد من «الاستقلال» وحتى اليوم لم تقدم أي حكومة لبنانية أو مجلس نيابي أو المؤسسات المدنية والسياسية والفكرية والنقابية على طرح هذا الموضوع بشفافية لمعالجته على نحو يتماشى والمصلحة الوطنية، بل استخدم هذا الموضوع أحياناً لتبرير عمليات قمع الحريات فقط.
3ـــــ المشكلة المهنية:
نستطيع القول إن التطور السلبي أو تفاقم الأزمة الناتجة من مشكلتي الامتيازات والتمويل إضافة إلى طبيعة التحوّلات السياسية والفكرية في لبنان والمنطقة والعالم أدّت جميعها إلى ما يشبه الانقلاب على دور الإعلام في لبنان. من الدور الرائد في النهضة العربية الثقافية والفكرية والسياسية، إلى الانغلاق والانحسار في شؤون قطرية ثم مناطقية ثم طائفية ثم مذهبية ليعيش اليوم أسوأ حالاته وحالاتها.
ولم ينعكس ذلك على الخط العام للمؤسسات الإعلامية فقط، بل على آلية العمل في هذه المؤسسات وعلى بنيتها العامة من حيث طبيعة العمل وطريقة العمل والجهاز البشري.
فبعدما كانت المؤسسات الإعلامية موقعاً للمفكرين والمثقفين وموقعاً لتطوير الجسم الصحافي ثقافياً وفكرياً، تحوّل معظم الجهاز البشري إلى ما يسمّى اليوم «صحافيي أدوات التسجيل».
وبعدما كانت المؤسسات الإعلامية موقعاً للمفكرين السياسيين، بدأت تتحوّل إلى موقع لصحافيي الشتائم والمروّجين للتعصّب الطائفي والمذهبي.
وبعدما كانت المؤسسات الإعلامية موقعاً للتنوّع الفكري والسياسي والثقافي، بدأت هذه المؤسسات تتحوّل إلى مؤسسات الإعلام الموجّه واللون الواحد بأسوأ تجلياته الطائفية والمذهبية، وكل ذلك على مرأى من الدولة اللبنانية بكل تكويناتها ولم يتحرك أحد على المستوى الحكومي ولا على المستوى الشعبي وحتى على المستوى المهني لمواجهة هذا الانحدار المتسارع الذي يصيب معظم المؤسسات الإعلامية اللبنانية، بل أكثريتها الساحقة. حتى أصبح مقياس الترقّي المهني محكوماً بالقدرة على الإكثار من الشتائم وإبراز الأحقاد الطائفية والمذهبية.
ولا يمكن فهم ما يجري في «النهار» اليوم إلا في هذا الإطار، حيث يبرر العجز المالي صرف معظم ما بقي من صحافيي أيام زمان، كما يقال، بغض النظر عن اتجاهاتهم الفكرية والسياسية ومدى التوافق أو الاختلاف معهم. وبهذا فإن «النهار» تتخلى عن عراقتها لتدخل حداثة الليل القاتم، وهو مسار بدأ منذ فترة ويستكمل اليوم، وخصوصاً أن معظم المؤسسات الإعلامية لم تعد مركزاً للحوار السياسي والثقافي والفكري، بل غدت مركزاً لحوارات متقاسمي الزواريب والناس وفقاً لانتماءاتهم الطائفية والمذهبية.
4ـــــ المشكلة النقابية:
إن ما أصاب المهنة أصاب نقابتي المهنة، فصاحب المؤسسة الإعلامية بات مرتبطاً بالمموّل، وبات الصحافي مرتبطاً أيضاً بالمموّل والمرجعية، فلم تتحوّل النقابتان إلى مدافع عن المهنة، بل تحولتا أحياناً إلى مدافع عن الفساد في المهنة، وظلتا تتابعان حالات صحافيين تعرّضوا لأزمة لا يمكن تجاهلها. لكن دفاعهما صار عن حرية إعلامية بلا مضمون بدل التصدي لمشكلات المهنة وأخذ الدور الريادي في بدء حركة تصحيحية شاملة.
لكن المشكلة هي في كون معظم الصحافيين، بل وأكثريتهم الساحقة، لا يرون أن النقابة مرجع، فصلاتهم بالمموّلين وبالمرجعيات أقوى وأكثر فاعلية، ومعظمهم لا يقتصر مدخوله على راتبه من المؤسسة التي يعمل فيها، بل لديه رواتب أخرى هي الأجدى من أصحاب نفوذ ومرجعيات ومؤسسات، بل وسفارات. فكيف تكون النقابة والحالة هذه مرجعيته؟
* عضو مجلس نقابة المحررين