منى عباس فضل* مترو أنفاق دبي بقطاراته الزرقاء الفخمة، هو الحدث الأهم الذي تصدر وسائل الإعلام الإماراتية أخيراً. وهو أول مترو أنفاق كهربائي يدشن في منطقة الخليج، يسير آلياً دون سائق. الخليج باستثناء إيران طبعاً التي تمتلك شبكة قطار أنفاق تربط مفاصل عاصمتها طهران. كيف لا يكون الحدث الأهم، وتداعيات الأزمة الائتمانية لا تزال مفاعيلها تجري في عروق اقتصاد دبي المترنح بحمل ثقيل من ديون تقدر بمليارات الدولارات.
خلال السنوات المنصرمة، تغنّى الكثيرون بالنمو الاقتصادي السريع لدبي، كما انبهروا بالتغيرات العمرانية والنمو التجاري والسياحي الذي أثر على نمط الحياة. فقد كانت هذه تختلف بمعدلات نموها عما هي عليه الحال ببقية دول المنطقة، بالرغم من عائدات هذه الأخيرة النفطية. ففي سنوات معدودة، صارت دبي ورشة البناء الأولى وعملت بها 45% من رافعات العالم بسبب حركة العمران، وتوقع الخبراء أن يصل سكانها إلى 3 ملايين إنسان في 2017، بعد تزايد عددهم منذ 2005 بمعدل 6% سنوياً، وبلوغهم 1.2 مليون نسمة، من بينهم 960 ألف أجنبي. إلا أنه، بسبب تسونامي الأزمة، شُلّ عمل المئات من تلك الرافعات، وتوقف العمل في مشاريع لم تستكمل بعد، وسرح آلاف العمال الأجانب الذين غادروا دبي ومثلهم فعل المستثمرون، أضف إلى ذلك عجزاً سجلته الموازنة هذا العام بقيمة 1.14 مليار دولار أميركي، علاوة على نقص شديد في السيولة، وانخفاض لأسعار العقارات وكساد سوقها. وضع مخيف حقاً، والمعطيات أعلاه لا يمكن إغفالها عند مشاهدة القطارات الزرقاء ببنيتها المتميزة وأناقة هندستها، وهي تعبر من شمال المدينة العصرية إلى جنوبها، مكتظة بأفواج من المقيمين الأجانب.
فكرة المترو تعود إلى 1997، سنوات العمران والازدهار، وتحديداً حين أجرت الحكومة دراسة عن أفضل الحلول العملية والاقتصادية للتخلص من التلوث الذي تنتجه مليون سيارة عابرة لطرق المدينة، وتسبب الاختناقات المرورية، وخصوصاً أن التوقعات أشارت إلى احتمال ارتفاع عددها بمعدل 10% سنوياً. الدراسة خلصت إلى عدم الاعتماد فقط على نظام المواصلات العادي لتلبية الاحتياجات المرورية المتزايدة، فأوصت بنظام مواصلات عابر «كمترو الأنفاق».
تقدمت للحصول على عقود تنفيذ المترو وإدارته وتشغيله لما يفوق عشر سنوات شركات أجنبية عدة، يابانية وفرنسية وبريطانية وألمانية وتركية وكندية، لها خبرة في المجال. ينجز المشروع على مرحلتين، ووفق خطين، على أن يكون بناء معظم الخط الثاني تحت الأرض. جزء من المرحلة الأولى نفذ فعلاً، وتم تشغيله في أيلول/ سبتمبر 2009، كما يتوقع الانتهاء من تنفيذ المرحلة الثانية في آذار/ مارس 2010. وقد قدرت كلفته في 2005 بـ4.4 مليارات دولار أميركي، سرعان ما ارتفع المبلغ إلى 7.6 مليارات دولار لاعتبارات التوسع في الشبكة وبناء محطات جديدة.
هيئة الطرق والمواصلات التي تدير المشروع تراهن على المترو ليكون رافعة ومنقذاً يعيد الثقة لدبي كمركز تجاري ويخرجها من الأزمة ويحقق لها الأرباح خلال السنوات العشر المقبلة. وقد قدرت تلك الأرباح المحصلة من الإعلانات في محطات المترو بـ4.6 مليارات دولار أميركي. فمن المعلوم أن الإمارات تتصدر المركز الأول عربياً بعد السعودية في الإنفاق الإعلاني، هذا إلى جانب ما حصلت عليه من أرباح سبقت التشغيل من حقوق تسمية 23 محطة من إجمالي 47 يشملها خط المترو، وتأجير حقوق الدعاية والإعلان في المحطات والعربات والجسور كلها، فضلاً عن تأجير المحال، إذ قدرت مبالغها بـ6 مليارات درهم، جمع منها حتى الآن 490 مليون دولار أميركي من تلك المبيعات. الرهان الآخر للهيئة يتمحور حول تغطية الكلفة العالية من جباية رسوم ركوب المترو.

في سنوات معدودة، صارت دبي ورشة البناء الأولى وعملت بها 45% من رافعات العالم، لكن تسونامي الأزمة شلّ كل ذلك

بيد أن خبراء يتوقعون عدم قدرة دبي على تحمل عبء تكاليف المترو وتشغيله. يقول «جوس دير» مدير النقل في شركة «أشورست» إنه «من الصعب للغاية أن يعوض أي نظام للسكك الحديدية التكاليف الرأسمالية الأولية». إلا أن «سايمن وليامز»، خبير اقتصادي لدى «إتش إس بي سي»، يرى أنه «يمثل استثماراً طويل الأمد، ستبرز قيمته الفعلية عندما تعود إمارة دبي في نهاية المطاف إلى مسار النمو». أي الرأيين صح؟ كلاهما! حتى يتبين ما إذا المشروع قد تأسس في الأصل على خلفية تجارية واستثمارية صرفة، أم لكونه جزءاً لا يتجزأ من خطط التنمية والتطوير المتوجبة على الدولة.
في كل الأحوال، تدشين المترو وضع دول المنطقة، لا دبي وحدها، أمام تحديات متجددة بشأن متوجباتها التنموية في تطوير بنيتها التحتية، وتلبية الحاجات الملحة لإيجاد شبكة مواصلات عملية، وبأسعار معقولة، ليس لمواطنيها فقط بل للعمالة الوافدة التي تعتمد عليها اعتماداً حيوياً في اقتصادياتها، فضلاً عن خدمة المشاريع السياحية التي تروج لها، مقارنة نفسها بدول شرق آسيا، وخصوصاً أن عائداتها النفطية ارتفعت خلال السنوات الأخيرة، ولم يُستغلّ بعضها حتى الآن في تدشين شبكة قطارات توصل مناطقها بعضها ببعض، وتسهل السفر والتنقل البري، كما يحدث في الدول المتحضرة. صحيح أن المترو يمثل إضافة نوعية للنهضة العمرانية، لكن الصحيح أيضاً أنه تأسس كمشروع تجاري واستثماري، ولأغراض سياحية، وتلبية لاحتياجات العمالة الأجنبية التي تدفقت أثناء الازدهار، لكنها الآن ترحل بسبب الأزمة وتخلف وراءها فراغاً هائلاً، ما يستدعي التساؤل عن دقة توقعات الأرباح لتغطية الأكلاف العالية التي تكبدها المترو برغم أهميته وضرورته.
من جهة متصلة، ثمة حديث تردد عن التحدي الأكبر لتغيير عادات سكان دبي وسلوكياتهم وتحولهم من استخدام مواصلاتهم الخاصة إلى استخدام المترو والمواصلات العامة. هذا الأمر يتطلب نظرة تحليلية فاحصة لظاهرة اجتماعية مأزومة تتسم بها المجتمعات الخليجية عامة، لا دبي فحسب. وهي خاضعة لقوانين تحكمها، وثقافة سائدة، مع منظومة علاقات اجتماعية تراتيبية متشابكة ومعقدة لها صلة بتربية الأفراد وتكوين طبائعهم. البيئة المصطنعة التي أفرزها نظام السوق في دبي ولّدت بدورها نمطاً مشوهاً من علاقة يشوبها الارتياب والتنافر والانعزال بين المواطن والأجنبي المقيم، فضلاً عما أنتجته من إقصاء اجتماعي مباشر أو مبطن مغلف بالتعصب والنظرة الدونية للغريب، لا سيما حين يتداخل هذا النمط ويصطدم بوضع إثني/ ديني وطبقي يدفع باتجاه أن يكون للمواطنين المقتدرين أماكن سكن مختلفة عن الأجانب، كما يحصلون على إعفاءات من الرسوم والضرائب والضمانات التي يحرم منها الأجنبي المقيم لسنوات طويلة وغيرها.
لهذا وذاك، فتخصيص عربات في المترو برتبة «فاخرة»، وأخرى للنساء والأطفال، لن يكفي لتحفيز الإماراتيين على ترك سياراتهم الفاخرة من أجل ركوب مترو مكتظ بالعمال، والسير ولو لدقائق معدودة في درجة حرارة مرتفعة، من منازلهم للوصول إلى محطة القطار والعكس. ما يشير إلى ذلك استجابات 47% من عينة سًئلت، وأفصحت بأنها لن تستخدم المترو باعتبار أنه لذوي الدخل المحدود. وبالتالي فليس متوقعاً أن يتماهى من يشعرون بالتميز، وبأنهم في قمة الهرم الاجتماعي، مع الحدث الجديد لكونه حدثاً فريداً، فيتجاوزوا كل تلك الاعتبارات ويختلطوا بالطبقات المتواضعة من العمالة الآسيوية في المترو. إنه في نهاية المطاف صنع لخدمة فورة انحسرت.
* باحثة بحرينيّة