لم يعد يكتفي بالوقوف على شفير تلك الحفرة العميقة، التي كانت مبرة، ليتلو الفاتحة على أرواحهم، فالحفرة رُدمت وأُعيد إعمار ما هدمته الحرب مكانها، لذا، سكن البيت المواجه، يطل من نافذته على الماضي، ما إن يغمض عينيه، ويتنشق رائحة أولاده الشهداء وأمهم
علي السقا
«كثيراً ما يستيقظ أثناء الليل وعيناه دامعتان. أدرك للتوّ أنه قد رآهم في حلمه، يصبح كالطفل، فأضمّ رأسه إلى صدري وأُربت كتفه. أحاول أن أواسيه بكلمات من نوع أن مثواهم الجنة، وأن عليه أن يصبر، وهكذا حتى يهدأ روعه، إلا أني أعرف أنه سيعود ويراهم من جديد». تنفرج شفتا عليّة سعد، الزوجة الثانية لخليل موسى، عن ابتسامة خجولة قبل أن تلوذ بالصمت. فخليل ليس بذاك الرجل المزواج، ولا هو بزير نساء. فزواجه الثاني لم يكن يخطر بباله يوماً، لكن ما حصل أيضاً لم يكن يخطر بباله يوماً.
لقد كان لثلاثة غارات إسرائيلية متتالية استهدفت مبرة الإمام علي في بلدة معروب في قضاء صور، أن تمثّل نقطة التحول المباغت في حياة ذلك الرجل. كان من الممكن لحياة خليل أن تستمر بالإيقاع نفسه لو أن زوجته الأولى وأم أولاده، لم تبقَ هناك، تحت ركام المبرة. كذلك كان من الممكن له أيضاً أن يقعد بعدها مربياً أولاده، لولا أن ثلاثة من الأربعة لم يؤثروا البقاء هناك، تحت الركام أيضاً، في حضن أمهم القتيلة. هكذا، تزوج خليل من عليّة سعد في محاولة منه لبدء حياة جديدة، ولعدم البقاء وحيداً بعد فقدانه عائلته التي لم يبق منها إلا محمد، «واسطة العقد» الذي صادف وجوده عند أحد أقربائه ساعة الكارثة.
غادرني ابني قبل المجزرة بدقائق قائلاً: نعيماً يا بابا

يحلم محمد بأنه يلعب مع أخيه ألعاباً «كنا بس نحنا نخترعا»
«أتذكّر حياتي معهم بكل تفاصيلها، وبأدق دقائقها. اختبأنا داخل جزء من رواق طويل بمحاذاة سرداب أضأناه بشمعتين كي لا ترانا مروحيات العدو. كنا نقتات من المعلبات التي أُعدت للمخيم الكشفي. أهداني حيدر رسماً لمدينة باريس، كما تصورها في مخيلته، عندما انتهى من إنجازه أثناء سهرنا الطويل داخل الملجأ. كان بارعاً في الرسم والتمثيل». يتحدث خليل متذكراً تلك اللحظات، يشرد للحظات وهو مطرق الرأس ناظراً بين يديه إلى الأرض، ثم يردف قائلاً: «أراهم في أحلامي، عم يلعبوا، مبسوطين، وجوههم منورة. غالباً ما يحدثونني عن اشتياقهم لي، ويسألونني متى سأذهب إليهم، وخصوصاً تلك الصغيرة إسراء (3 سنوات) التي عندما هممت بالخروج من الملجأ لكي أذهب للاستحمام، هرولت ناحيتي ولفّت ذراعيها حول عنقي، كانت تشمّني وتقبلني متوسلة: «خدني معك يا بابا»، فأجيبها: «إسرائيل عم تقصف يا بيي، بتقبلي يا بنتي انو نموت؟»، فتقترب برأسها مني وتلامس خدها بخدي قائلة: «لا يا بابا، أنا بحبك». حتى حيدر الذي رافقني إلى البيت، لم يكن له نصيب في العيش، لقد غادرني قبل المجزرة بدقائق بعدما أعطاني المنشفة قائلاً: «أنا رايح يا بابا، نعيماً». يقول خليل متحسراً.
مُنع أبو حيدر من رؤية جثث أطفاله أثناء انتشالهم من بين الأنقاض. لم يرهم، لكن هناك من روى له كيف كانوا قد بدوا لدى انتشالهم. أجساد هامدة متكوّرة، الواحد إلى جانب الآخر إلى جانب الأم.
حسرته هذه التي يجهد للخروج منها بقوله: «هذا قضاء الله وقدره»، لم تجعله بمنأى عن الكلام اللاذع الذي يسمعه بين الفينة والأخرى، سواء من بعض الأقرباء أو الغرباء، عن مسؤوليته في مقتل زوجته وأولاده، حيث يلومونه لأنه تركهم في الملجأ! يقول خليل: «لم أسلم من لوم أهل زوجتي، حتى إن أبي وأمي قالا عني الكثير». يضيف: «أولادي فلذات كبدي وقرة عيني، كيف لي أن أضحّي بهم؟ لا أحد ممن يلومني الآن يفهم ما أعنيه بأن هذا كان قضاء الله وقدره، وأني لو لم أذهب للاستحمام لكنت في عدادهم». يغصّ قليلاً ثم يضيف: «كنت وزوجتي مرتبكَين بشأن اتخاذ القرار بمغادرة المبرة أو عدم مغادرتها، لأن القصف كان على أشده، ولا يميز بين البشر والحجر، وكان كل شيء يتحرك هدفاً سهلاً لطائرات العدو. كان واضحاً أن إسرائيل تريد استهداف المدنيين».
أما الابن الناجي، محمد، فإن أثر فقدانه لأمه وإخوته يبدو للوهلة الأولى أخفّ وطأةً مما يبدو على والده المفجوع الأرمل والثكلان. لا يمكن التنبوء بأثر تلك الكارثة عليه مستقبلاً، إلا أنه يحيا طفولته حياة شبه طبيعية. فقد تعرف إلى أتراب جدد يمارس معهم ألعاب الصيف «بس أكيد مش متل إخواتي، ومش نفس الجو» كما يقول، إلا أنه يبدو مخففاً لوقع المصيبة. هو الآخر، يحلم بإخوته أيضاً. يحلم بأنه يدرس معهم ويرسم ويلعب مع أخيه الأكبر حيدر ألعاباً «كنا بس نحنا نخترعا»، قبل أن تأتي أمه، في المنام أيضاً، لتضمه إلى صدرها وتهمس في أذنه طالبة منه الاجتهاد والابتعاد عن بعض الألعاب المؤذية.
وفي المكان نفسه الذي استُشهدت فيه عائلته، لا يزال خليل يحيا، حيث إنه قبل بالبقاء حارساً للمبرة التي أعيد بناؤها هذه السنة، رغم أن إدارتها لم تعطه إذناً بمغادرتها خلال عدوان تموز. هل أعيد إلى عمله بسبب إحساس بالذنب عند من لم يسمح له بمغادرة مكان عمله، ما أدى إلى استشهاد عائلته؟ لا أحد يعلم. لكن خليل لا ينفك يردد: «هذا قضاء الله وقدره».
اليوم يحاول خليل استعادة حياته. عاد إلى دورة الحياة اليومية، لكن بالتأكيد ليس كما كان. البناء الذي سُوّي بالأرض، حاملاً معه ما أصبح اسمه «الماضي» يُعاد بناؤه بحلة جديدة. هو يسعى إلى إنجاب أطفال من زوجته الثانية، لأن «لبنت الحلال هذه التي تهوّن عليّ مصيبتي، الحق في أن تصير أماً»، إضافة إلى حاجة ابنه الوحيد محمد إلى «صبي أو بنت يعوضانه فقدانه لإخوته».
لكن خليل المتزوج منذ سنتين لم يستطع بعد الإنجاب مجدداً كما يرغب هو وزوجته. هذا ما دفع الزوجان إلى اللجوء إلى الأطباء، واحداً بعد الآخر، ثم الخضوع للعديد من المعاينات والفحوص والتحليلات الطبية التي لم تثبت حتى الآن وجود علة مرضية تحول دون إنجابهما، ما يرجّح أن يكون ذلك بسبب الصدمة التي تلقاها باندثار عائلته الصغيرة تقريباً لولا نجاة محمد. طُلب منه أخيراً إجراء فحص للخصوبة، التي من المتوقع أن يكون للحالة النفسية التي يعيشها خليل تأثير سلبي فيها كما يقول الأطباء.
لكن خليل خائف. خوفه من أن يصبح رجلاً عاجزاً عن الإنجاب، أو أن يقال عنه كذلك، هو الذي يفسّر ربما تباطؤه في إجراء ذلك الفحص المخبري حتى الساعة. وهو تأخر يعزوه ببعض الغمغمة حين نسأله إلى «ضيق الوقت»، قبل أن يردف متلعثماً: «لعلها حالة نفسية».


الزوجة الثانية

لا تجد عليّة نفسها امرأة مغبونة، فهي تقول: «لم يجبرني أحد على الزواج من خليل، لم أتزوج لأني لم أجد الشخص الذي أتفاهم معه، طالما تمنيت الزواج من أبٍ لشهداء، خليل على الرغم من الكارثة التي حلّت به ومن العذاب النفسي الذي يعانيه يشعرني بأني زوجة حقيقية، فهو يشركني ويستشيرني في كل الأمور، أنا جدّ مسرورة بالزواج منه»