تجتاح بلدة صغار في أعالي البترون، حالة من الحزن والذعر. الحزن على وفاة ابنها الشاب الياس نعمة الله، بعد صراع طويل مع المرض، والذعر من خوف الإصابة بفيروس أنفلونزا الخنازير الذي سبّب بتسريع موت الشاب في أيامه الأخيرة
صغار ــ ضحى شمس
كأنه لم يكن يكفي عائلة نعمة الله حزنها على فقيدها، فإذا بها ضحيّة الذعر العام من عدوى الإصابة بالفيروس الشهير الذي لم تنِ وسائل الإعلام تتحدث عنه. قبل حلول الفيروس على «صغار»، كانت علاقة الناس بأنفلونزا الخنازير كالعلاقة مع كل شيء يظهر على التلفزيون: يبدو قريباً وبعيداً في الوقت ذاته. كأنه، كما في نشرات الأخبار، لا يحصل إلا للآخرين. لكن، منذ أن فجعت البلدة بخبر وفاة الياس، وتأكيد وزارة الصحة أن الراحل أصيب في آخر مراحل صراعه مع السرطان بأنفلونزا الخنازير، أخذ حزن العائلة يتحول، بسبب سلوك محيطهم، إلى غضب سافر. وما زاد الطين بلة، أن ابن عم المتوفى حنا، أصيب هو الآخر، فإذا بحال البلدة ينقلب رأساً على عقب: لم تعد الواجبات، ذات الأهمية الكبرى هنا، مهمة. هكذا، فضّل المعزّون الإحجام عن المشاركة في التشييع وتقديم التعازي. أما عندما سارعت العائلة لعدم تخويف الناس، إلى دفن فقيدها قبل الموعد المعلن بـ7 ساعات، فإن الأمر أدى إلى نتيجة عكسية. هكذا، أخذ الناس يقولون: لو لم يكن هناك من داعٍ لما دفنوه بهذه السرعة! وإن كان الناس معذورين في تخوّفهم، فإن ذلك لا يبرر حالة الهلع غير العقلاني التي تسود القرية منذ أيام. ولكن، لنروِ القصة من البداية.
لا نعرف إذا كان في استطاعتنا الاقتراب من المدفن بعد دفن المصاب
نقف في أول البلدة، سائلين الناس عن منزل الفقيد الشاب. تجيبنا إحدى العاملات السوريات التي كانت هناك، عاكفة على شك أوراق محصول التبغ في غرفة واطئة، أن أقاربه هنا في المنزل القريب. نسألها عن المتوفى فتقول: «كان عنده يا لطيف من هيداك المرض (السرطان)، وبعدين صابوا هيداك المرض (أنفلونزا الخنازير)!». يطل رجلان من مبنى قيد الإنشاء: «نعم نحن اولاد عمه، تفضلوا ماذا تريدون!». بعد التعارف، يقترح الرجلان أن نقصد معهما بيت حنا، ابن عم المتوفى والمصاب بدوره، لكنه في مرحلة التعافي. فنفعل.
لا يمدّ حنا يده للمصافحة. يخرج من باب بيته المطلّ على كتف وادٍ من جهة، وعلى كنيسة وحديقة مدافن من جهة أخرى. خرجت زوجته نورما قبله، مع أولادهما الثلاثة. يجلس بالشورت والفانلة كمن يقول أنا حاضر للأسئلة. يبدو السؤال البديهي عن صحته؟ يقول لنا إنه اليوم في يوم علاجه الخامس، ويؤكد أن الفيروس في هذه المرحلة لم يعد معدياً، وخصوصاً أنه وأولاده يتناولون المضادات المطلوبة منذ معرفتهم بإصابته.
«الثلاثاء الماضي، يقول، عملت شوية حرارة، ظننت أن للأمر علاقة بضربة شمس لأنني أمضيت وقتاً طويلاً يوم الاثنين في الخارج. الثانية فجر الأربعاء ارتفعت الحرارة، لكن في الثامنة صباحاً كانت أقلّ. في المساء، أكدت التحاليل أن الياس (المتوفى) مصاب بأنفلونزا الخنازير». ينظر حوله ثم يضيف بهدوء: «أنا فزعت بالحقيقة. الخميس السابعة صباحاً، كنت بمستشفى بيروت الحكومي. عملت اختبار، قالوا لي النتيجة بحاجة إلى 48 ساعة. في اليوم التالي، توفي الياس. أصبحت مصراً على معرفة النتيجة باكراً: فعلى الإصابة تترتب مسؤوليات كثيرة، منها أنه يجب أن لا أختلط بأحد، وبعائلتي خصوصاً. على كل حال، اخذت احتياطاتي. ما عدت قرّبت على حدا. ليش بدّي أؤذي العالم؟ السابعة مساء الجمعة قالت لي د. غادة شعيب إن النتيجة إيجابية، معك الفيروس». بعدها بدأ حنا فوراً بتناول الدواء: «بلشت بالتاميفلو. صودف أن زوجة ابن عمي، وهي في الوقت ذاته خالة الشاب المتوفى وزوجة عمه، كان معها علبة، وفي اليوم التالي اشتريت من الصيدلية علبة أخرى، وللأولاد «فلو فلاي» من وزارة الصحة. ونحن اليوم والحمد لله على ما يرام. بس مين بيقنع الناس؟».
يقول ريمون: «يا عمي الناس بالضيعة خايفة. أصلاً لم يأتوا للعزاء من شدة الخوف... بتعرفي نحنا بضيعة، في واجب. يعني جنازة شاب مش أقل من 30 سيارة تمشي بموكبه، بيحملوا التابوت بيعملوا زفة عريس.. وحياتك ما حدا إجا».
لكن ريمون عاتبٌ على الوزارة التي «طلبت من والد المتوفى أخذ خزعة لإرسالها إلى أميركا. الأب تجاوب، وتبنّت الوزارة كل شي. لكن منذ وفاة الياس؟ لا شيء. كان يجب أن يتابعونا. شو لازم نعمل هلق؟ شو منعمل بالجثة؟ بتضلّ تعدي؟ طيب الدفن لازم يكون بشكل محدد؟ لازم نصبّ كلس فوق القبر؟ فينا نرجع نفتح القبر بعد ستة أشهر مثلاً إذا بدنا ندفن حدا تاني؟ ما حدا قلنا شي».
تقطع صيحة طانيوس الحديث، منادياً شخصاً كان يمر على الطريق المحاذي «انييييس»، يضحك مفسراً: «هذا صاحبنا صار يخاف يفوت لعنّا»، يضحك الباقون. يتابع دعوته «الخبيثة» ضاحكاً: «ما تخاف: وحياتك حنا (المصاب) جوّا». يضحك حنا ويدخل الغرفة مختبئاً. يطلّ الرجل المنادى، تأتي نورما، زوجة حنا بأكواب الليموناضة. تقول هي الأخرى إن الناس مذعورون منها «هيداك اليوم كنت بالشارع طلع بوجّي واحد صاحبنا... وحياتك برم ورجع، هرب صار يركض! الوزير تلفن لعمي (والد المتوفى) وعزّاه، لكن ربما كان يجب أن يأتي أحد منهم ليقتدي الناس به». يقول طانيوس: «السبت الصبح (لدى مواكبة الجثمان) لم يأت إلا... مين؟ (يعدّ على أصابعه) هدى وأنطوان وحنا وغيتا وشي 3 من برات العيلة. عادة بيكون شي 100 شخص. بس مش هون الموضوع.. صرنا نقول للعالم ما تخافوا .. و«بردو» ما إجو، ضل الخوف». ويضيف «د. نسناس قال من المستحسن أن نقفل التابوت بالمسامير وأن نأخذه مباشرة قبل الدفن ولا نفتحه». يصحح له حنا: «قالوا هيك لأن الجثة كانت بالثلج حتى لا تبقى في الشمس، ما في عدوى من جثة».
يتابع طانيوس تساؤله: «يمكن الجثة بتضلّ تعدي؟ ما حدا قلنا. يمكن كان يجب حرق الجثة؟ لا أعرف». يطلّ رجل، «هيدا أنيس، يمازح طانيوس، لا يزال خائفاً». يضيف: «يعني الوزارة تركتنا بنص الطريق». يقول حنا: «أنا عندي رأي: لماذا لا يوزعون ملصقات تقول ما يجب فعله؟». تقول نورما «يعني من يوم الإصابة وأنا أفرك كل شيء بالديتول: مسكات الأبواب، الأرض، الثياب، الصحون... كل شي». يعلق زوجها حنا: «يعني خضرت إيدها. أنا احتكيت بالمتوفى، وقبّلته في جبينه، قبل أن يموت... لم أمت». نشرب من أكواب الليموناضة، وإذا بريمون يهتف: «والله انت شجاعة». يرنّ هاتفه. يتكلم قليلاً، ثم يأتي إلينا: تفضّلي في واحد عم يسألني إذا صحيح الجيش مطوّق البلدة! معقول؟»، يجيبه أنيس: «ألم يقولوا في الإعلام إن الدرك أخذوا حنا غصباً عنه إلى المستشفى لأنه يرفض الذهاب للعلاج؟».
ثم يقول: عندنا عتب على الإعلام، كبّروا القصة. حاصرونا، لا أحد يأتي إلى الضيعة، ولا نحنا عم نقدر نروح برة». يقول ريمون: «خبّرها شو صار». فيستجيب: «إللي بيعرفونا من صغار عم يتحايدونا. لكن الإصابة جاءت من بيروت. الشاب كان يتلقى العلاج ببيروت، كمان ساكن بأنطلياس. في ناس بتشتغل موظفين بالضيعة، بالكهربا وبالهاتف، دخيلكم، صاروا يقولولنا، حيّدوا شوية ما تجوا عالشغل، نحنا منوقّع عنكم».
يقول طانيوس وهو يلفّ سيجارة تبغ محلي: «نحنا اللي كفّنّا الشاب الياس». وماذا عن رجال الدين؟ سمعنا أنهم رفضوا المجيء. يقول ريمون: «مش صحيح. أبونا كاهن الرعية، جاك نقولا، هو من ألبسه الكفن. وضع كمامة ولبس قفّازات، وقال: هذا من رعيتي، وكل راع مسؤول عن رعيّته، على نية الله».
تركن سيارة أمام المنزل. رجل بكمامة يقودها. يركض الزميل المصوّر لأخذ صورة، إلا أن الرجل سرعان ما يرجع بسيارته إلى الخلف. ثم يتوقف. يقول إنه لا يريد أن يصوره أحد. إلى جانبه مختار القرية طوني أنطون. يقول لنا إن الشاب يتمنع لأنه يعمل في مصلحة الهاتف، والناس ما إن تعرف أنه من القرية حتى يتمنّعوا عن التعاطي معه. يقول المختار: «وزارة الصحة مع أنها تجهد، إلا أنها مقصّرة. كان يجب أن ترسل مواكبة مع الجثة لكي يقولوا لنا ماذا نفعل. الناس لن تصدقنا، لازم شخص رسمي. صار هلع، نعم. هذا الهلع تسبب بإفراغ الضيعة من الاولاد وكبار السن. الناس هجت لأنها خايفة. هذا لا يصح. كان على الوزارة أن تتابع حتى النهاية. وحتى اليوم لا نعرف: هل تكفي مرور 10 أيام لكي يموت الفيروس؟ هل نستطيع الاقتراب من المدافن؟ لا أحد قال لنا شيئاً».
في طريق العودة، يتصل والد الشاب المتوفى لينفي ما نقله عنه مراسل «الأخبار» يوم الدفن من أنه متمسك بأن وزير الصحة قال له إن ابنه لم يكن مصاباً بالفيروس. يذكر أن بيان وزارة الصحة الذي أكد إصابة الياس نعمة الله بالفيروس صدر مساء التشييع، أي بعد مرور المراسل هناك.


سبل الوقاية

تجنّب الاحتكاك مع شخص مصاب/ اغسل يديك بالماء والصابون جيداً وخاصة بعد ملامسة الأشخاص أو الأماكن التي يوجد فيها شخص مصاب/ تجنّب لمس أو حكّ الفم أو الأنف أو العينين قبل غسل اليدين جيداً بالماء والصابون/ ضع القناع الواقي طول اقترابك من أشخاص مصابين/ استشر طبيباً في حال ظهور العوارض. أما إذا كنت موجوداً في بلد أو منطقة ظهرت فيها حالات أنفلونزا «آي وان اتش وان» أو تظن أن من المحتمل أنك قد تعرضت لهذا الفيروس، ولا سيما إذا برزت لديك عوارض تشبه الأنفلونزا (أو الرشح)، ينصح بالإرشادات التالية لمدة أقلها أسبوع: راقب حرارتك بانتظام/ راقب تفاقم العوارض المرضية لديك/ تجنب مخالطة الأشخاص والأماكن العامة وأماكن العمل/ ضع القناع الواقي (الكمامة) بانتظام لمنع انتقال العدوى إلى الآخرين/ لا تباشر العلاج بالمضادات الحيوية أو الفيروسية قبل استشارة الطبيب/ استعمل منديلاً ورقياً للتخلص من إفرازات الأنف، ثم تخلص من المنديل بعد استعماله/ راجع الطبيب عند ظهور العوارض وبأقرب وقت/ تأكد أنك أبلغت الطبيب بسفرك.