ضحى شمس«وك له، هيدي التنس للبرغش»، يقول السائق العابق الوجه والمتصبب عرقاً كمن أوقدت تحته نار وقد صار في طور النضج. يضحك الراكب كمن رويت له نكتة للتو: «للبرغش؟ كيف يعني؟»، فيشرح السائق المجرب، أن مضرب التنس هذا الذي يجول به صبية بين السيارات المتوقفة، والذي رسمت عليه صاعقة، يجتاحه ما يشبه التيار الكهربائي، يومض فيجذب البعوضة ويحرقها في لحظتها، وبهذا يصبح للبرغش. يهز الراكب رأسه معجباً: «والله هالصينيين، في شي بعد ما اخترعوه؟».
كانت الإشارة الحمراء على تقاطع بشارة الخوري قد أضاءت لتوّها، فكان ذلك بمثابة إشارة الانطلاق لمجموعة الصبية، ممن امتهنوا هذه المهنة الوسيطة بين التسول وبيع الحراتيق (ترجمة «كادجيت») للنزول بين السيارات المتوقفة، يعرضون بضاعتهم مازجين مزجاً موفقاً بين إلحاح الباعة المتجولين وإلحاح المتسولين، مستخدمين اتساخ ملابسهم للضغط على رافضي التجاوب، ولو مساومة، مع تسويقهم لبضاعتهم النافلة. أما حين يحاول سائق ما، إقفال شباكه كنوع من قطع الحديث، فإنهم يبقون هناك، ملتصقي الوجوه بالزجاج، يتطلعون إلى السائق وملء عيونهم توسل ظاهري، يخفي بالكاد لذة ماكرة بالانتقام «التصاقاً».
وبضاعة هؤلاء، تتغير حسب آخر صيحات البلدان المصنعة: من مثل مضرب تنس البرغش الصيني، أو عصي الخيزران التي تشبه خيزرانة «معتز» في مسلسل باب الحارة. تتساءل بإعجاب: كيف دري الصينيون بمعتز وخيزرانته، حتى صنعوا تقليداً لها وأرسلوه للسوق المناسب؟ تتذكر غزو هذه البضائع معظم الأسواق الشعبية من سوق صبرا عندنا إلى الحميدية في الشام إلى اسطنبول وحتى إلى قبرص بجزءيها التركي واليوناني. الأسواق الشعبية في العالم كله هي سوق الصين العظيم. كل ما يروج استهلاكه من رموز ثقافية أو فنية أو سياسية، للصين علاقة بتصنيع «أصنامه»: ومن المؤكد أن معظم «غادجيتات» أميركا نفسها، تصنع في الصين، لرخص اليد العاملة والمواد الأولية.
تتذكر قداحات عليها صورة المفتي محمد قباني وأخرى لعمرو دياب أو هيفا، تتذكر علاقات مفاتيح السيد حسن نصر الله، وفناجين صورة رفيق الحريري، في المعرض الصيني الدائم في منطقة الروشة، حيث يحلو التسكع لمحبي العثور على لقيات صغيرة من مصنوعات عملية ورخيصة جداً. وحتى «أصنام» الأولاد مثل «سبايدرمان» أخيراً، أفضلها صيني. أذكر مثلاً، لعبة له صغيرة (اشتريتها من طرابلس) مصنوعة من مادة تلتصق بالمسطحات، ما يتيح لسبايدرمان اللعبة، بعد رميه على حائط مثلاً حيث يلتصق، أن ينزل على الحائط بقوة الجاذبية، لكن ببطء بسبب المادة اللاصقة. ثمن هذه اللعبة؟ 250 ليرة! تبدو لك هذه الأثمان لأفكار لامعة، ولو لم تكن ضرورية، كأنه ليس هناك أرخص من الأفكار في الصين. لا بل إنهم «أبدايت» أي مطلعون على آخر المستجدات. فهم أعادوا طبع الفناجين بصورة الحريري الأب ووريثه بعد اغتيال الأول، لا بل إن جعجع نفسه لديه «ماغ» مع ستريدا. ولن أفاجأ في زيارتي المقبلة للمعرض إن رأيت وليد جنبلاط إلى جانب نصر الله، في ترجمة للتحول الجنبلاطي الأخير، على الرفوف.
يبدو لك الصينيون في مجاراتهم للسوق العالمية النهمة لاستهلاك أصنامها (المشاهير مثلاً)، كأنهم لا يبالون إلا بتشغيل عمالتهم الهائلة. كأنهم يدرأون تهديداً لا ينفك ينمو، وهو ينمو. تؤكد أخبار الوكالات هذا الاستنتاج: عمال صينيون في شركة حديد وصلب أُريد «دمجها» بشركة أخرى فطرد المدير العمال، فما كان من هؤلاء إلا أن .. هجموا على المدير وضربوه حتى.. الموت! الخبر التالي؟ توقف دمج الشركتين فعلاً.
يغزو الاجتياح الأصفر بهدوء العالم. تتذكر أيضاً، خبر الاشتباك الصيني الجزائري منذ أيام في منطقة باب الزوار شرقي عاصمة المليون شهيد، وبلد .. السبعة عاطلين من العمل من أصل عشرة (تحت سن الثلاثين)، والذي أصيب فيه أكثر من 100 شخص. تتعجب كيف تفضل الجزائر استقدام عمالة صينية للعمل في المشاريع العمرانية الحكومية، بدلاً من تشغيل شبابها، الحيطيست، تسمية السخرية للعاطلين الذين لا يفعلون شيئاً باستثناء سند الحيطان.
تتذكر أيضاً أن بعض السرفيسات على الخط، أصبحت صينية هي الأخرى. كما تلك السيارة التي استقللتها منذ أيام. كانت واسعة ومريحة على طريقة السيارات الأميركية. وقد احترت فيها لأنها خارج مألوف الموديلات التي لا تنفك الإعلانات تلهج بذكرها، فإذ بالسائق يوضح أنها صينية، وأن سعرها من الشركة لا يتجاوز 10 آلاف دولار. ثم أردف: «أصلاً كانت بسبعة، بس عم يغلّوها اللبنانية على كثر ما هي ناجحة». يعترف السائق في كل الأحوال بأن بعض القطع تخرب بسرعة «يعني بخمس سنين غيرت رادياتور، بس شو حقو؟ 200 دولار! منيحة 200 دولار بخمس سنين»، يقول كمن يكلم نفسه. ثم يردف، متأثراً لا شك بالتكييف البارد في هذا الحرّ الخانق «الصين الصين. شو بعد ما اخترعت؟ اشتري منهم اشتري وحتى لو كان بيخرب بسرعة. انتي متصورة، لا سمح الله، مليار ونصف بني آدم عاطلين عن العمل؟ يعني ما معهم لا ياكلوا ولا يشربوا؟ ايه والله لياكلونا بلقمة والله. أصلا مش لازم حتى نخليهم يزعلوا»، مردفاً: «إذا فينا مخ طبعاً».