ناهض حتر*لم تعد الحركات القومية تمثّل تحدياً، لكن أفكارها لا تزال تشوّش الوعي التقدمي العربي، وتمنعه من التبلور حول أفق متجاوز. ولا يريد الماركسيون مساجلة الأفكار القومية بالنظر إلى أنهم خسروا المعركة معها في الخمسينيات والستينيات، حين كانت الجماهير العربية خاضعة لتلك الأفكار التي استعارها الإسلام السياسي لاحقاً، ودمجها في سياق توسيع هيمنته، في ما يُعرف بالتيارات والهيئات والحوارات الإسلامية ـــــ القومية.
اكتشف الإسلام السياسي القرابة الفكرية والروحية مع بقايا القوميين الذين تخلوا عن الاشتراكية والعلمانية. وهو تخلٍّ أزال فتيل العداء القديم. فإنّ ما يبقى يتضمن مشتركات واختلافات يمكن تسويتها.
تصفية الحساب مع الأفكار القومية له، إذاً، ضرورة سياسية راهنة أيضاً في إطار السجال ضد الإسلام السياسي. وهو سجال تأخر التقدميون العرب في خوضه بسبب أوهام التوجهات الجبهوية، والتعلق الجبان بأطروحة التفريق اللاجدلي بين ما يسمى تناقضات رئيسية وثانوية.
وكأن قضايا الحداثة والتنمية الوطنية والديموقراطية الاجتماعية والعلمانية، التي يتعلق بحلها فقط تجاوز التخلف، والاقتدار على مواجهة الإمبريالية، هي قضايا من الدرجة الثانية.
نقطة البدء اللازمة للتحرّر من الوعي القومي ـــــ وتالياً الإسلامي ـــــ تكمن في ملاحظة بسيطة مغْفلة: القومية لا تختصر ولا تساوي العروبة، والإسلام السياسي لا يختصر ولا يساوي الإسلام. لقد دأب القوميون، مستخدمين الديماغوجيا الدعوية ووسائل العنف الفكري والمادي معاً، على اعتبار الحركة القومية ممثلاً شرعياً ووحيداً للعروبة. وداخل هذه الحركة، رأت أحزاب متصارعة أنها هي، بالذات، التي تعبّر عن الحركة القومية، وبالتالي فإنها وحدها التي تمثّل ما هو عروبي.

الأحزاب القومية تعبّر عن مصالح بورجوازية محلية وليست كما ادعت ممثلة للعروبة
ولقد نجح القوميون في فرض معادلة المماهاة بين القومي والعروبي في الأيديولوجيا العربية المهيمنة. وهي معادلة أصبح من الضروري الآن نقضها، لأنها بقدر ما هي زائفة، بقدر ما هي تعرقل نهضة العمل العروبي.
القومية العربية، بكل مدارسها وأحزابها، هي، في الأخير، حركة فكرية ـــــ سياسية صراعية داخل العروبة الواقعية ـــــ وفي لحظات عديدة، ضدها ـــــ وليست ممثلاً للعروبة في الصراع الذي خاضته وتخوضه الشعوب العربية لتوحيد صفوفها في المعركة ضد الإمبريالية والكمبرادورية والاستبداد.
ويكشف التحليل المادي لمضامين السلوك السياسي للأحزاب القومية أنها استخدمت العروبة أداةً أيديولوجية في معاركها لهيمنة بورجوازيات محلية على المستويين الداخلي والإقليمي: لم تزد الناصرية، في الواقع، عن كونها تعبيراً عن مصالح بورجوازية مصرية معادية للاستعمار وتطمح إلى تحقيق ذاتها في مشروع تنموي، لكنها تطمح إلى فرض نفوذها ومصالحها على العالم العربي، مستخدمة فكرة العروبة الملهمة للجماهير. ومثال النهج السلطوي المصري في «الإقليم السوري» من دولة الوحدة ليس سوى واحد من بين أمثلة السلوك السياسي الفعلي للناصرية في تدخلاتها العربية القائمة على نظرية الدفاع خارج الحدود.
وفي تحليل هذه التدخلات، سنرى أن بعضها إيجابي وبعضها سلبي، لكنها جميعاً كانت تعبّر عن مصالح «مصروية» بالدرجة الأولى. وحين سقط مشروع البورجوازية المصرية الاستقلالي وانتقلت إلى الكمبرادورية، لم تعد هي في موقع شبه مركزي يتطلب الإيديولوجيا الناصرية، فانقلبت
عليها.
حركة القوميين العرب خارج مصر، احتكرتها سياسياً قوى بورجوازية صغيرة فلسطينية، وطوّعتها، بادعاء الانتقال نحو الماركسية، لتصبح رديفاً أيديولوجياً وسياسياً للكمبرادور الفلسطيني.
وهذا هو في رأيي أساس الحبل السري الذي لم ينقطع بين الجبهتين الشعبية والديموقراطية و«فتح».
حزب «البعث» مثّل حركة أكثر أصالة، أولاً، بسبب وراثته للحركة القومية التقليدية في المشرق، وثانياً، بسبب تعبيره عن جراح الوطنية السورية التي انحصرت من مداها الواسع والحيوي في بلاد الشام إلى التموضع في المساحة الجغراسياسية للجمهورية العربية السورية، وفقدت البورجوازية السورية، بالتالي، إمكان تحوّلها إلى مركز أو شبه مركز.
وثالثاً، لأن هذا المآل المأسوي انتقل بالإنتلجنسيا السورية إلى الراديكالية الاجتماعية والسياسية والعلمانية. وحين قدّم الرئيس حافظ الأسد معادلة معقدة لدور سوري شبه مركزي في المشرق، استطاع تكوين نظام مستقر حظي بقاعدة واسعة نسبياً. لكنه، بطبيعة الحال، اصطدم بمشروع مركزي آخر تمثّل في النظام البعثي العراقي، المعبّر بدوره عن مشروع بورجوازي عراقوي. وهذا التنافس الصراعي مع بغداد الصاعدة في السبعينيات، والعداء التقليدي العميق الغور مع تركيا التي سلخت حصتها من الشام، وأخيراً الصراع الدامي مع إسرائيل، كل ذلك وجه الأسد إلى تحالف مع إيران الإسلامية المعادية للعراق والعروبة. وعلى الهامش، اصطدمت دمشق بالمتمردين في الإقليم الشامي: «فتح» الفلسطينية والملك حسين، لكن بالدرجة الأولى بالمتمردين في لبنان الذي لا يُعَد جزءاً لا يتجزأ من الإقليم الشامي فقط، بل من الجمهورية.
لقد أصبحت هذه اللوحة من الماضي. فالبورجوازية السورية تعود القهقرى نحو الكمبرادورية. وهو ما قاد، ويقود إلى التموضع في الإطار الجغراسياسي للجمهورية القائمة.
أردت من خلال هذا السرد أن أضع النقاط على الحروف في ما يتصل بحقائق تاريخ الأحزاب القومية بوصفها معبّرة عن مصالح بورجوازية محلية، وباعتبارها أحزاباً تصارع داخل العروبة الواقعية، وليست، كما ادعت، ممثلاً للعروبة. ولا يعود ذلك إلى خيانة السادات لنهج عبد الناصر أو تخلي النظامين العراقي والسوري عن «البعثية الحقيقية»، بل يعود إلى بنية الأيديولوجيا القومية المؤهلة للعمل خادمة للبورجوازيات المحلية المتنافسة، لكونها، بالذات، أيديولوجية زائفة، وتقبل التزييف.
الأفكار القومية العربية، كلها، مستوردة من أوروبا القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وليست بحال من الأحوال عربية المنشأ. ويمكن تلخيص هذه الأفكار، في تجليها الألماني والفرنسي اللذين استورد منهما القوميون عندنا نظراتهم، بالآتي: الأمة العضوية التي تقوم على التماثل وترفض التعددية المحلية والإثنية والدينية واللغوية والثقافية، لكنها تسمح ـــــ ما عدا فترات الأزمة النازية والفاشية ـــــ بالتعددية الحزبية داخل التماثل القومي والأيديولوجي. وقد حارب القوميون عندنا الشق الأخير، أعني التعددية السياسية التي عدّوها تهديداً لوحدة الأمة يواجَه بالحل النازي ـــــ الفاشي، أي بالعنف الدموي.
وبالافتقار إلى الأساس الاقتصادي ـــــ الاجتماعي المساند للأيديولوجيا القومية في أوروبا، أي قوى الرأسمالية المتطورة التي تتطلب الحداثة والعلمانية، فإن الأحزاب القومية العربية اضطرت للجوء إلى قواعد ما قبل رأسمالية، أي إلى العصبيات المحلية والطائفية. وهو ما منع التحديث وضرب العلمانية، وسمح للإسلام السياسي بوراثة المشهد كله.
تكونت الأمة العربية في صيرورة إمبراطورية أطلقتها أيديولوجيا دينية هي الإسلام، وتكونت ببطء عبر القرون وكوّنت روابطها الداخلية في ظل نظام اقتصادي ـــــ اجتماعي لم يعرف الملكية الخاصة للأرض إلا في أضيق الحدود، وهو النظام الذي يسميه سمير أمين «الخراجي». وقد أتاح هذا النظام تكوّن الأمة على أساس التعددية المحلية والإثنية والدينية والثقافية، المعتَرف بها، التي شهدت تقنيناً في الشريعة، وفي العهد العثماني في أنظمة مكتوبة ومراعاة بدقة لإدارة الخصوصيات من كل نوع وشكل.
ويختلف هذا السياق التاريخي لتكوّن الأمة العربية جذرياً عن السياق التاريخي الذي تكوّنت فيه الأمم الأوروبية، ما جعل استيراد الأفكار القومية لهذه الأمم، واستخدامها لتجديد الأمة العربية، مستحيلاً
وكارثياً.
الأيديولوجيات الناجعة لا تُستورَد من الخارج، كذلك فإنها لا تنبثق من نص مقدّس، بل هي تتكون بالتطابق مع التكوّن التاريخي للمجتمعات وحاجاتها الموضوعية للتقدم. وهو تطابق ليس بإمكان الأفكار القومية الأوروبية أن تنهض به إلا بتدمير الواقع لحساب الأفكار الجاهزة، وسحق
الاعتراض.
من التماهي مع الفكرة القومية الأوروبية، أشاع القوميون عندنا تخيلات لا علاقة لها بالواقع العياني للأمة العربية. ومن هذه التخيلات القول إن الاستعمار الغربي جزّأ العالم العربي إلى أقطار. وهذا ليس صحيحاً أبداً. فعندما قدم المستعمرون إلى بلادنا، وجدوها مجزأة بالفعل إلى أقطار ومجتمعات محلية وملل.
كانت الدول قائمة بالفعل في المغرب العربي ومصر، وكان المشرق المكوّن من أرخبيل ثقافي وديني واجتماعي وإثني، خاضعاً للإمبراطورية العثمانية التي تعترف بهذا الأرخبيل الواقعي، وتديره. لكن الوحدة السياسية الخارجية في إطار الإمبراطورية، لم تكن تعني أبداً أن المشرق العربي كان، قبل الاستعمار، موحداً. بطبيعة الحال، ارتكب المستعمرون جرائم بحق المشرق العربي، أُولاها إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين وتسهيل سلخ أراض سورية لحساب تركيا وأراض عراقية لحساب إيران، وأخيراً ترسيم حدود الدول الجديدة من دون الأخذ في الاعتبار حدود المجتمعات المحلية، ما قسّم بعض هذه المجتمعات على أكثر من دولة. لكن كل ذلك لا يلغي حقيقة الخصوصيات والتعددية الإثنية والثقافية والدينية في المشرق، وهي حقيقة سعى المستعمرون إلى تعميقها واستخدامها لأغراضهم، لكن فقط حينما كانت هذه الأغراض تتطلب ذلك. فلا يستطيع أي دارس للتاريخ المشرقي الحديث أن يهمل كون بريطانيا سعت إلى دعم توحيد معظم الجزيرة العربية تحت حكم آل سعود، أو أنها دعمت مشروع الملك عبد الله لـ«سوريا الكبرى»، أو أنها دعمت تأسيس الجامعة العربية وكان لها التأثير الحاسم في توحيد الضفتين الشرقية والغربية للأردن، وتوحيد الإمارات.
العروبة ليست فكرة ولا حركة، بل هي واقع قائم على روابط عميقة متكوّنة تاريخياً بين شعوب ومجتمعات وإثنيات وأديان وطوائف وثقافات محلية. وليس بين هذه الروابط ما يجعلها عضوية من حيث الأصل الجنسي. فالعرب لا تربطهم قرابة الدم (فالأصول الإثنية للشعوب العربية عديدة)، ولا يوحدهم الدين (فالعرب يدينون بأديان رئيسية وفرعية عديدة)، ولا توحدهم اللغة (فالعرب يتحدثون بلهجات عديدة غنية وأصيلة وتعبّر عن المحلي، تاريخاً ومجتمعاً، بصورة تستبعد الفصحى إلا للكتابة). فماذا يوحّد العرب؟ يوحدهم مدى اجتماعي ـــــ ثقافي ـــــ سياسي مستمد من العيش المشترك في إطار الإمبراطوريات الخراجية، ولا سيما في عهدها العربي. وهذا المدى «التعددي» يتركز، رمزياً، في العروبة التي يدرك الشعور الجمعي للشعوب العربية أنها رابطة لا غنى عنها لمواجهة الإمبريالية الغربية، وللتقدم الاجتماعي.
العروبة النضالية، بهذا المعنى، لا يمكنها إلا الاعتراف بالواقع التعددي، والسعي إلى تنظيمه ـــــ لا إلغائه اعتباطاً ـــــ في صيغ اقتصادية وسياسية ودفاعية وثقافية قادرة على تحسين شروط الاستقلال والتنمية والتحديث.
والتعددية المحلية والإثنية والدينية والثقافية لا يمكن تنظيمها بصورة تقدمية من دون التعددية السياسية في ديموقراطيات جذرية، كذلك لا يمكن تجاوزها تاريخياً من دون الديموقراطية الاجتماعية، وبالتالي، الحداثة والعلمانية. وهذا يعني أن الإسلام السياسي لا يمكنه أن يكون بديلاً.
* كاتب وصحافي أردني