خالد صاغيةيأخذ اللبنانيون راحتهم منذ أربع سنوات في التعبير عن مشاعرهم الطائفيّة. لم يعد هناك داعٍ للتورية. ثمّة بحث جارٍ لاستعادة حقوق المسيحيّين التي سلبها السنّة، ودعوات للعروبة السنّية في مواجهة العروبة المزيّفة، فيما الدم السنّي «عم يغلي غلي» في الطريق الجديدة، والدم الشيعي «عم يغلي غلي» في ضاحية بيروت الجنوبية.
لا بدّ من أن يكون لهذا التنفيس عن المكنونات الطائفيّة بعض الإيجابيّات. كما قد يكون مفيداً الكفّ عن النظر إلى الطائفيّة كمرض مستشرٍ أصاب شعباً بعينه. ومن المفيد فهم الهواجس الطائفيّة، ومتابعة تحليلات تحاول فهم آليّات عمل الطوائف، وتبحث عن مخارج للحؤول دون تحوّل الصراعات الطائفيّة إلى نزاعات مسلّحة.
قد يكون كلّ ذلك مقبولاً. ولكن... لا بدّ من بعض الملاحظات:
أوّلاً، يرجى من المولعين بالطائفيّة عدم اقتراف الأخطاء نفسها التي ارتكبها في السابق خصومهم من عشّاق التحليل الطبقي. أي، يرجى عدم اختزال سلوك الأفراد والجماعات بمحرّك واحد أحد لا شريك له. فتماماً كما أنّ الدخل الفردي للمرء لا يختزل موقعه الطبقيّ، وتماماً كما أنّ الموقع الطبقيّ لا يمكنه وحده أن يحدّد الهواجس والأذواق والانتماءات السياسيّة والموقع الاجتماعي، لا يمكن الانتماء الطائفي ـــــ مهما كانت تأثيراته عظيمة ـــــ أن يختزل الحياة السياسية والسلوك السياسي.
ثانياً، لا تنحصر المسألة بالاختزال وحسب. ثمّة مَيْل لفرض التطبيع مع هذا الواقع. فحين يسترسل سياسيّون ومحلّلون في كلامهم عن الطوائف، تراهم لا يفعلون ذلك من موقع المراقب، بل من موقع المدافع عمّا باتوا يعتبرونه من البديهيّات. هل من البديهيّ استخدام مصطلح «مسيحيّو 14 آذار» أو «سنّة المعارضة» مثلاً، فيصبح عمر كرامي رديفاً لكمال شاتيلا، وسمير جعجع رديفاً لنسيب لحّود؟ هل من البديهي العودة إلى أطروحة «المجتمع المسيحي»، واعتماد مصطلح «الهلال الشيعي»؟ ليس الأمر اصطلاحياً بريئاً. نحن أمام محاولة لفرض التطبيع الكامل مع الواقع الطائفي.
ثالثاً، هذان الاختزال والتطبيع يقودان إلى مشروع هيمنة. هكذا تكفّ الطوائف عن كونها تشكيلاً اجتماعياً له مساهماته، إلى جانب تشكيلات أخرى، في تحديد السلوك السياسي والاجتماعي، وتصبح مشروعاً قمعيّاً لا مكان في المجتمع لمن يخرج عنه. الدولة نفسها تصبح مهدّدة ما لم تخضع.
سقط مشروعا 8 و14 آذار. فلم تتحقّق لأيٍّ منهما الهيمنة. لكنّهما أسّسا معاً لهيمنة مشروع ثالث، هو المشروع الطائفي الذي حقّق انتصاراً آخر على الدولة وعلى ما دونها وما فوقها من بنى وتشكيلات.