نوال العلي
يصطفل رشيد الضعيف. مزاجه المتعكّر عطّل الكلام. هو لم ينم جيداً الليلة الفائتة، وبدا ضجراً حريصاً على ألا يترك أي انطباع مؤثر، محافظاً على نظرة كأنَّها لا تُبصر شيئاً. لديه نقطة فراغ أمامه يحدق فيها باستمرار، كأنّها «فسحة بين النعاس والنوم». جلسنا في مقهى الفندق البيروتي القريب من مكاتب الجريدة ومن مكان سكنه. طلب قهوة إسبريسو، وكان صوت امرأة على طاولة مجاورة يزعجه. حركاته المتململة من الأصوات المجاورة جعلتني أحسّ بالقلق والعجز. الخلاصة أنّ ظروف المقابلة كانت تشبه سيارة ببطارية واهنة، ذات صباح شتائي.
سألناه عن الطفولة، فأرسل نظرة مَن وقع في مأزق، قال: «شو بيفيد هالحكي؟». سألناه عن ذكرياته في بيروت الستينيات، قال: «أنا ما بحب هالحكي». سألناه عن الإصابة التي تعرّض لها في الحرب، فتحدّث عنها كثيراً. أخبرنا كيف أنّه عاد من الموت، وتكلم عن أثرها عليه لكونه ماركسياً في ذلك الوقت، وقال: «هالحكي مش للنشر». أمّا أيام الحرب فـ«يعني مش موضوع للصحافة». لم تظهر شهيّته للكلام إلا عند سيرة الشعر والنثر. فهمنا أنّه كلما ابتعدت عن حياة رشيد، يتحدّث بأريحيّة أكثر. يبدو مسترخياً في وجوده داخل الروايات التي كثيراً ما حمل أبطالها اسمه، وكثيراً ما ترك لهم تفاصيل من حياته هو. تشعر به يكتب كمن يترك باب الحمّام مفتوحاً لدى دخوله. ما الذي لا تقوله عنك عادةً؟ «ما لا أقوله أكتبه».
بدأ الضعيف شاعراً، أو كاتباً لنصوص ذات طابع شعري، كما يصرّ دائماً على التوضيح. صدر كتابه الشعري الأول «حين حلّ السيف على الصيف» سنة 1979، وأتبعه باثنين آخرين. ربما كان تأثُّره طالباً للأدب العربي في «الجامعة اللبنانية» بمجلة «شعر» التي دارت حولها رسالته للماجستير، أحد الأسباب التي دفعته بهذا الاتجاه. القصيدة في نظره الآن شكل معوَّق إبداعياً. يتحدَّث عنها صاحب ديوان «لا شيء يفوق الوصف» كأنّها آلة قديمة معطلة. ينتصر للسرديات وأثر النثر في الثقافة العربية. تلك الكتابة التي أُلّفت لإمتاع الملوك والخلفاء والأمراء والخاصّة، فرضت نوعاً من الكتابة هدفه الإخبار والمؤانسة... من أين، إذاً، يأتي هذا الوهم الهائل أنَّ الشعر هو المؤثّر الأعظم في الثقافة العربية؟ «سؤال يحتاج إلى بحث» يقول الضعيف.
جاءت روايته «معبد ينجح في بغداد» (دار الريس) مشبعة بالأعمال التراثيّة. رغم ذلك، هوجم عليها بوصفها تقدّم مادةً وفيرة من «شأنها تغذية التنميطات الغربية (الاستشراقية) عن العربي». أخِذت معظم أحداث هذا العمل من كتاب «الأغاني» للأصفهاني و«مروج الذهب» للمسعودي، وعُدَّ تحولاً في سرد الضعيف، بعد 13 رواية، بدأت بـ«المستبد» (دار أبعاد) التي كتبها قبل اجتياح 1982. حينذاك اضطر لكونه واحداً من الشيوعيين إلى مغادرة بيته وتركه في عهدة رفاقه، ولمّا ينجز نصفها. كان من حظّ المسودة أن تعيش وينشرها بعد عودته سنة 1983.
رغم أنّ بيروت الستينيات أسطورة الثقافة والحريّة، يقول الضعيف: «أنا في بيروت الآن أفضل من ذلك الوقت». بيروت ذلك الوقت نجدها في مجمل أعماله، لكنها ثقيلة في «عزيزي السيد كاواباتا». هناك، تحدث عن الحلم الاشتراكي الذي كان حلم الضعيف يوماً: «لم أكن أحلم، كنت أبوح بخيبة أمل كبرى، كنا نبني شيئاً، وما تحقَّق كان خيبة». لا نعرف تماماً إذا كان يتحدّث عن الرواية أو الحلم. ربّما تحدّث عن الاثنين معاً!
هو الآن أستاذ للكتابة الإبداعية في «الجامعة اللبنانية الأميركية»، بعدما درَّس ثلاثين عاماً في «الجامعة اللبنانية». يتنقّل بين بيروت وبيته المطلّ على وادي قديشا في الشمال اللبناني، حيث مسقط رأسه. هناك في إهدن، يعيش وحيداً مع الطبيعة التي يعدّها هبة الطفولة. كبر ابن زغرتا في بيت تؤطّره الطبيعة، وهناك عرف الحب: «كان الغرام وقوفاً وكلاماً، أو كلاماً من غير وقوف، يعني كلام وقبلة أو كلام وبس، وأنا جربت الاثنين».
أما طرابلس، عاصمة لبنان الثانية، فهي أولى المدن بالنسبة إليه. فيها تفتّحت براعم الفردية، هناك الحب والبحر والسينما والمقاهي والرفاق. لكنّ طرابلس اليوم ليست نفسها، تلك مدينة أخرى «انخطفت» يقول الضعيف. انتماؤه إلى عائلة متواضعة وكبيرة لم يمنعه من أن يقول: «كنا أسعد الناس» قبل حرب العائلات. الحرب التي كبرت لتصير حرباً أهليّة وتنظيفاً عرقياً، كلّ يراها حسب هواه. الشاب الذي كان من أسعد الناس، انتقل إلى بيروت سنة 1966، لدراسة الأدب العربي في «الجامعة اللبنانية». ثمّ سافر إلى باريس مطلع السبعينيات، ليكمل دراسته الجامعية في «السوربون». نظم الشعر، وكتب الروايات. لم تترك أعماله شيئاً إلا وزجّت نفسها فيه، أو سخرت منه بلغة على قدّ الحياة تماماً. كثيراً ما هوجم على إباحيته، وخصوصاً في «تصطفل ميريل ستريب» (الريّس)... لكنها لغته التي تناسب الأدب «الصح»، كما يكتبه صاحب «ناحية البراءة» (المسار) و«ليرننغ إنغليش» و«تقنيات البؤس» (الريّس). في هذه الأخيرة تظهر الحياة واقعية جداًً، حتّى أسماء الأماكن والمقاهي والشخصيات، ميزة تغذي خيال القارئ المحب للتلصص. ستجد شارع الحمرا والمقهى وعصام العبد الله ونهاد حشيشو وموسى وهبه. ستجد حياةً توهمك بأنّها حدثت بالفعل، وأدباً يوهمك بأنّه محض خيال.
حين التقينا الضعيف كان يستعد للذهاب إلى بيته في إهدن... إنّه يعمل على ورشة رواية جديدة، وهو في المناسبة محب لورشات البناء. حين كانت أعمال إعادة إعمار بيروت في بداية التسعينيات على قدم وساق، كان ينزل يومياً ومعه «ترويقته» ويروح يراقب الورش. كان سعيداً ومعتقداً فعلاً أنّ هذا الإعمار بداية السلم الأهلي الفعلي. ولشدة مواظبته على الحضور، خال العمال في إحدى الورشات، ذات مرّة، أنّه مكلف المراقبة!
ما زال البناء يستهويه. يبني في الرواية، ويراقب الحياة وهي تنمو مثل برج أو ناطحة. قراءاته وثقافته توحي لمن يجالسه أنّه يتنقّل في آلة عابرة للزمن. تتركه مع المسعودي، فإذا به قد عاد بك ــــ من دون سابق انذار ــــ إلى ألفيّتنا الجديدة، لكنّه على الأرجح كان يتمنّى البقاء في بلاط الرشيد.


5 تواريخ

1945
الولادة في زغرتا (شمال لبنان)

1966
«النزول» إلى بيروت لدراسة الأدب في الجامعة اللبنانية

1971
الانتقال إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في «السوربون»

1983
صدرت روايته الأولى «المستبد»

2009
شارك في إحدى ندوات «معرض الكتاب 2009» في نيويورك، الحدث الذي واكب احتفاليّة «بيروت عاصمة عالميّة للكتاب 2009»، ونظّمته American Literary Agents Association.