سلامة كيلة *نشر الصديق ناهض حتّر في «الأخبار» بتاريخ 14 / 7 / 2009، مقالاً بعنوان «مشرق العصبيات»، بدا لي أنه به يؤسس منهجياً لما يطرحه سياسياً، وهو هنا يستند إلى الشهيد مهدي عامل، أو ينطلق من فكرة طرحها هذا الأخير وهو يحلل أسباب الحرب الأهلية في لبنان. ومن يقرأ المقال، يلحظ مدى الضياع المنهجي، الذي يتبدّى أصلاً في الخلط بين منطق التحليل والواقع، أي المنطق الذي يحكم تحليل الواقع، وتمظهرات الواقع ذاته. لهذا نجده يستبدل التحليل الماركسي بتحليل «خلدوني» يتعلق بالعصبية (رغم أن ابن خلدون كان يشير إلى شيء غير الذي يتناوله ناهض، ونقصد عصبية القبيلة من أجل إعادة بناء الإمبراطوريات في وضع كانت هذه هي الآلية الأساسية لتشكلها وتدميرها كذلك).
يشير ناهض إلى أن «التحليل الماركسي الكوني للمجتمعات والسياسات العربية يظل غير منتج معرفياً، وعاجز عن بلورة نظرية للتغيير الاجتماعي والسياسي. فالعرب ما زالوا خارج التاريخ الحديث، وتالياً خارج الماركسية، وما زال تاريخهم محكوماً بابن خلدون. فصراع العصبيات، لا صراع الطبقات، هو المحرّك العميق لتاريخ يدور على نفسه في حركة دائرية مقفلة»، ليطرح السؤال عن إمكان القفز عن التحليل الاجتماعي السياسي الخلدوني، معتبراً أنه سؤال من أجل حوار تأسيسي لنظرية مطابقة لاحتياجات التقدم العربي.
تكمن مهمة الماركسية في الحفر عميقاً في دور «العصبيات الطائفية» في الصراع الطبقي
ربما لم يتطور الواقع منذ ابن خلدون (رغم أنني أرى غير ذلك، حيث إن كلية الظروف مختلفة)، لكن منطق الفكر تطور كثيراً. ومن هنا يمكننا أن نحلل «الواقع الخلدوني» بأدوات جديدة ومتطورة، لا أن ننطلق من أدوات عتيقة تعيد إنتاج الوعي التقليدي ذاته، والصراعات التقليدية ذاتها، لأنها تنظر إلى البنى كما هي بادية، كما تظهر له، لا كما هي في الواقع الراهن. وهذه الأدوات تنطلق من العصبية لتكريس العصبية دون الحفر في ماهيتها، وكيف كانت، ولماذا ما زالت تتبدى إلى اليوم. الإجابة عن هذه الأسئلة ليست ممكنة إلا انطلاقاً من الماركسية، وهي عصيّة انطلاقاً من مفهوم العصبية الخلدوني، أو مفهوم «الجماهير الوطنية» الذي يُعزى إلى مهدي عامل.
ورغم إقراره بعجز الماركسية عن فهم «اتجاهات الواقع السياسي ـــــ الثقافي»، وبالتالي إشارته إلى ابن خلدون، فإن حتّر يتكئ على مهدي عامل «المخلص لملاءمة الماركسية محلياً» في تحليله الحرب الأهلية أواسط السبعينات، «بتحليل بنيوي ـــــ وظيفي»، حيث تقوم «الجماهير الوطنية» «رغم طائفيتها» بدور الطبقة العاملة في تحقيق «الثورة الاشتراكية». ليصبح هذا التحليل هو أساس نظره إلى الواقع بديلاً عن الماركسية التي قال إن تحليلها غير منتج معرفياً. وهو ينظر إلى الصراعات في الأردن ولبنان والعراق وسوريا، وحتى الصراع البعثي العراقي ـــــ السوري القديم من منظوره، ويؤسس عليه منهجياً، أي يحول هذه الفكرة إلى منهجية في الفهم، مستعيداً العصبية الخلدونية كما أشرنا، أو واصلاً بين مهدي عامل وابن خلدون، ومعيداً الماركسية إلى خلدونية رغم كل التطور الفكري الذي عاشته البشرية منذ هذا المفكر العظيم.
وأقول منذ البدء، إن هذه الفكرة ليست ماركسية سواء نُسبت إلى مهدي عامل أو لم تُنسَب، بل إنها تكيّف الماركسية مع مستوى من صراعات قوى طبقية تستخدم «العصبية» (الدينية أو الطائفية أو الإقليمية) لهدف طبقي. بينما تكمن مهمة الماركسية في الحفر عميقاً في دور «العصبيات الطائفية» وغيرها في الصراع الطبقي ذاته. بمعنى أن اختلاط الصراعات الطبقية لا يجوز أن يؤسس لاختلاط في منطق التفكير، بل يجب على منطق التفكير أن «يفك لغز» هذا الاختلاط، وأن يعيد الصراعات إلى أسسها الحقيقية بغض النظر عن الغلاف (أو الشكل) الذي يمكن أن تتخذه.
هنا يصبح «التحليل البنيوي ـــــ الوظيفي» هو المبرِّر النظري للصراعات الطائفية وغيرها. ويصبح الشكل الطائفي للصراعات هو «الوضع الطبيعي» للتناقضات في المشرق العربي. والمهم أن يحدِّد اليساري من هي الطائفة «الثورية» أو «اليسارية». ورغم أن ناهض يشير إلى «عنصر طبقي» في الصراع في الأردن بين «العصبيتين الفلسطينية ـــــ الأردنية والأردنية»، فإنه يركّز على العصبية بدل أن يركز على الطبقية. وهذا يوضح أساس المنطق الذي يحكم رؤيته، حيث يتسم بثلاث سمات هي: الشكلية المفرطة، حيث يكفي وجود الطوائف للتحليل على أساس العصبية. والآنية، إذ إنه ينطلق مما هو راهن لا من صيرورة الوضع، حينما كانت الصراعات طبقية أو وطنية واضحة قبل أن تنقلب في بعض المناطق إلى صراعات طائفية عبر الدفع «الخارجي» والتخلف الداخلي. وأخيراً، الانطلاق من السياسي ـــــ الثقافي لا من الطبقي. وهذه كلها تشير ليس إلى عجز الماركسية عن «بلورة نظرية للتغيير الاجتماعي والسياسي»، بل إلى عجز عن فهم الماركسية ذاتها. وهي إشكالية قطاع واسع من الشيوعيين، حيث لم يكونوا ماركسيين مطلقاً!
وهنا يكون فشل الشيوعيين في بلورة نظرية للتغيير هو نتاج عجز عن وعي الواقع وفق المنهجية الماركسية، لا نتاج عدم مقدرة الماركسية بالمطلق. فالمسألة هنا تتحدَّد في: هل ندرس الواقع من منظور العصبيات وتشكل الطوائف، أم من منظور الطبقات، وبالتالي نحلل أسباب استمرار الماضي في الحاضر وأثره في الصراع الطبقي؟
إنّ تجاوز البنى القروسطية يفترض تحقيق انتقالة في وسائل الإنتاج، أي التحول من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي. ولأن هذه الخطوة لم تتحقق بعد (وهذا موضوع قائم بذاته ويمكن الحوار حوله)، فإن «الوعي التقليدي القبْلي» يبقى هو الوعي السائد، لأن تجاوز الوعي التقليدي يفترض تغيير البنى. وهذا الوضع هو الذي يجعل الأصولية والطائفية تطفو كلما انهارت «قوى التقدم»، أي اليسار. ومن هذا المنطلق ليس علينا أن نرى هذا التشقق الطائفي والإقليمي وحتى القبلي سوى كنتيجة لانفلات سمت الحداثة. ولهذا أشرت إلى أن ناهض ينطلق من اللحظة لكي يؤسس «رؤية تاريخية»، وليفسر التشقق الراهن كتشقق مطلق. وهو الأمر الذي جعله يخلط بين وجود الطوائف والأديان و«الإقليميات»، وحتى القبائل، وبين الطائفية كوعي مضاد للآخر، وجعله يخلط بين استغلال طبقة ما أو فئة من طبقة للتمايز الطائفي والديني والإقليمي لكي تحقق مصالح طبقية (لا طائفية) عبر تسعير النزعة الطائفية وتحويل التمايز إلى تناقض.
هذا بالضبط ما فعلته البرجوازية اللبنانية «المسيحية» سنة 1975 حينما قررت أن تتجاوز الصراع الطبقي الوطني وتحوّله إلى صراع طائفي. ولم يكن الرد المقابل طائفياً بل وطنياً، رغم كل محاولات تحويله إلى صراع مسيحي ـــــ إسلامي. لكن حينما وصلت الأمور إلى «التفاهم» من جديد، عادت المسألة الطائفية إلى الواجهة نتيجة أن الأطراف التي تفاوضت كانت تنطلق من الإقرار بالطابع الطائفي للسلطة (والدولة)، لهذا أصبحت المسألة هي المحاصصة الطائفية. ولقد لعبت البرجوازية الشيعية منذ نهاية السبعينات على استقطاب «جماهير» الطائفة، لكنها نجحت بعدما انهارت المقاومة الفلسطينية، حيث جرى توجيه الصراع ضد اليسار (الحزب الشيوعي اللبناني، وكل القوميين)، وهو ما تحقق في اتفاق الطائف. وهذا ما شارك حزب الله فيه، لكن متأخراً، أي بعد التحرير، وكانت رمزية المقاومة تعطيه الثقل الذي يفرض محاصصة جديدة.
هل يؤكد كل ذلك أن العصبية هي الأساس؟ أولاً، لقد جرى استغلال العصبية، لكن هذه الجماهير كانت في موقع آخر قبلئذ، وبالتالي لا يمكن أن نعتبر أن العصبية هي عنصر «جوهراني» فيها، وإلّا لما كانت في اليسار. هنا يجب أن نبحث في الأسباب التي دفعت الجماهير إلى هذا الخيار لا تفسير ذلك ميتافيزيقياً. وربما نحتاج إلى نقاش أوسع، وخصوصاً بشأن الأردن...
* كاتب عربي