بعد شهور من الانتظار والتفاؤل، صدر عن وزارة الثقافة القرار القاضي برفع الآثار الرومانية من منطقة وادي أبو جميل وتفكيك الأعمدة الطينية للحمّامات لإدخالها لاحقاً إلى حديقة المبنى. من جديد أصحاب رؤوس المال يصلون إلى مطلبهم، وها هي آثار لبنان تُعَدّ غير مهمة
جوان فرشخ بجالي
لم تختلف مقررات وزير الثقافة تمام سلام عن سابقاتها، فهو بقي يسير في الخطى المعهودة حينما يتعلق الموضوع بآثار بيروت: المهم إرضاء مالكي العقارات، وليذهب تاريخ بيروت إلى الجحيم. فقد صدر قرار الوزير القاضي بالبدء بتفكيك ورفع آثار الحمامات الرومانية المكتشفة في منطقة وادي أبو جميل التابعة لميدان سباق الخيل (راجع الأخبار عدد 12 حزيران 2009). اكتشاف الحمّامات الرومانية (هي مماثلة تماماً لتلك الموجودة في موقع الحمّامات خلف شارع المصارف أو في موقع صور البحري) في الأشهر الماضية أدى إلى تشنج واسع بين وزارة الثقافة وأصحاب العقار الذين تسلموا صكّ الملكية منذ مدة لا تزيدعلى شهر، لكنهم دفعوا لشركة سوليدير ثمن الأرض والهواء! ففي وسط بيروت الاستثمار يشمل عدد الطوابق التي يرتفع فيها البناء. لذا، فقيمة المشروع تتعدى ملايين الدولارات ولو تقدمت وزارة الثقافة بطلب الاستملاك لوجب عليها دفع ثمن الأرض والهواء والتعويض على أصحاب العقار كلفة الحفريات الأثرية و«الوقت الذي خسروه في انتظار النتائج»، ما يجعل كلفة العقار باهظة الثمن، لدرجة أن تطبيق قانون الآثار كان من «الأحلام». للأسباب هذه، جرت مفاوضات طويلة مع أصحاب العقار للمحافظة على الآثار في مكانها وتحويل هندسة المبنى لاستيعابها. لكن أصحاب المشروع لم يقبلوا الفكرة، لكونها ستخسّرهم جزءاً من الأرض وما عرضوه هو وضع أجزاء من الحمّامات الرومانية في حديقة المبنى تذكيراً بالاكتشاف الذي حصل على العقار، ولإعطاء بعض من الطابع التاريخي للمبنى ولإبراز حسن «نيتهم» في المحافظة على تاريخ لبنان. طلب الوزارة أتى بالموافقة على هذا الاقتراح، وبدأت أعمال رفع الجدران الطينية والأعمدة تماماً كما كان قد حددها عالم الآثار ومكتشف الموقع الدكتور هانز كرفرز. وهانز كرفرز يعمل في وسط بيروت منذ أكثر من عشر سنين، وهو «عالم الآثار المعتمد» من شركة سوليدير للتنقيبات الأثرية في عقاراتها. وهو يرى أن «المحافظة على الآثار يجب أن تكون شاملة ولا تتوقف على عقار واحد أو اثنين. وهو لا يؤمن بتحويل حدائق الأبنية الخاصة إلى مواقع أثرية سياحية لأنها أملاك خاصة سيصعب لاحقاً فتح أبوابها أمام الزوار، لذا يجب إنشاء حدائق عامة يُعرَض فيها بعض من الآثار المكتشفة لإعطاء فكرة عن تاريخ بيروت».
حينما يصف كرفرز بيروت الرومانية تدمع عينا المستمع لروائع ما يسمعه من قصص عن الاكتشافات والآثار التي نقبت، وحين يتوجه إلى التعرف إلى تلك المدينة القديمة يستغرب كيف أن كل تلك المكتشفات قد أُزيلت بحسب توصيات كرفرز بنفسه. فهو من أدخل مفهوم التنقيب بالجرافات لتسريع المهمة، وهو من يرى أن لكل عقار فترة زمنية محددة يجب ألا يتجاوزها مهما كانت أهمية المكتشَف. وقد حفر كرفرز في وسط بيروت في مئات العقارات ورُفعت كل الآثار التي اكتشفها، بعضها وُضع ضمن مشاريع إدخالها إلى المتاحف العامة ولا يزال ينتظر منذ أكثر من سبع سنين إعادة تركيبه في مكان آخر، والقسم الأكبر رُمي في مكب النورماندي. أما بالنسبة إلأى الحمامات الرومانية التابعة لميدان سباق الخيل، فعلى الأرجح أن القسم الأكبر من الآثار سيُتلَف وسيحافظ على بعض الأعمدة الطينية والجدران بانتظار انتهاء مشروع البناء وتحضير الحديقة التي ستستوعب تلك الآثار. وعلى الأرجح أن الزمن سيتكفل بإتلافها بانتظار إعادتها إلى مكانها.
قرار الوزير سلام يعيد إلى الواجهة مشكلة المحافظة على ميدان سباق الخيل الروماني الذي اكتشف خلال السنوات الماضية قرب الكنيس اليهودي في وادي أبو جميل، وهو فريد من نوعه في بيروت، لكنه في حالة من الإهمال الهائلة، فالأعشاب البرية تغطيه كاملاً. وهنا يجدر التذكير بأن ميدان سباق الخيل غير محميّ أيضاً، فالوزير السابق طارق متري كان قد رفع في آخر يوم له في الوزارة كتاباً إلى الشركة العقارية، طالباً منها المحافظة على الآثار من دون التقدم بطلب الاستملاك، ما يعني أن أي قرار للمحافظة على العقار أو على هذا المعلم الفريد لم يصدر بعد. فهل يلاقي مصير الحمّامات التابعة له؟ وهل تُنقل حجارته إلى مكب النورماندي في انتظار إنشاء حديقة عامة في وادي أبو جميل تزيّن ببعض من أحجاره؟ ذلك هو المشروع الذي طرحه الدكتور كرفرز على شركة سوليدير والمديرية العامة للآثار، إلا أن هذه الأخيرة أصرت على المحافظة عليه في مكانه الأصلي، فيما شركة سوليدير تعتمد سياسة الصمت عن مصير هذا المعلم منذ تاريخ اكتشافه.
مهزلة إعادة بعض الأعمدة الطينية إلى حديقة المبنى تثبت أن على الشعب اللبناني الذي قبل لسنين طويلة موضوع رفع الآثار من وسط بيروت ورميها في مكبات النفايات أن يعدّ نفسه محظوظاً اليوم وأن يشكر أصحاب العقار على حسن نيتهم... عليه أن يقبل بفُتات التاريخ، لأن الوزراء والقيّمين على المحافظة على إرثه يرون أن الأولوية في البلد هي للإعمار ورأس المال.