إيلي شلهوب


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

من كان يتصوّر أن تصل الأمور على هذا الكوكب إلى هذا الدرك من الإسفاف؟ رئيس دولة أوروبية، مفروض أنها تحترم نفسها ومبادئها وقوانينها، تعتذر من ليبيا. لماذا؟ لأن سلطاتها كانت منسجمة مع نفسها ومع فلسفتها الاجتماعية والحقوقية، وعاملت هنيبعل القذافي، ابن العقيد الغني عن التعريف، كسائر بني البشر. القصة بدأت كغيرها من حكايات البلطجة التي لا يخلو شارع منها. خادمان يعملان لدى عائلة من عليّة القوم يدّعيان على مخدومهما بأنه وزوجته يعاملانهما بالسوء ويضربانهما. كانت تلك العائلة تقيم في تلك الفترة في فندق في جنيف، فما كان من شرطة هذه المدينة إلا أن طبّقت القوانين وأوقفت الزوج والزوجة ذات يوم من تموز عام 2008.
لسوء حظ رجال الشرطة هؤلاء، وبلدهم «المحايد»، أن الشخصين المعنيين اللذين أفرج عنهما بعد يومين بكفالة ضخمة كانا هنيبعل القذافي وحرمه المصون. وبما أن الشرف العربي لا يسلم من الأذى إلا إذا أريق على جوانبه الدم، قامت الدنيا ولم تقعد بعد. أوقفت طرابلس في تشرين الأول من ذاك العام تزويد سويسرا بالنفط، وسحبت من مصارفها مبالغ بقيمة خمسة مليارات يورو، وأنهت برامج التعاون المشتركة، وفرضت قيوداً على الشركات السويسرية، فضلاً عن منع رجلي أعمال سويسريين من مغادرة الأراضي الليبية. أما المطلوب فواحد: اعتذارات رسمية ومعاقبة المسؤولين عن اعتقال ابن معمر القذافي.
وعن أي ابن يتحدثون؟ عن ذاك السادي المعتوه، الذي وصفته مجلة «فوريين بوليسي» ذات مرة بأنه ثاني أسوأ ابن في العالم. ما وطئت قدماه أرضاً إلا عاثت فيها خراباً وفساداً. سبق أن اعتقل في باريس في 2004 لقيادته سيارته مخموراً، وبسرعة جنونية، وفي الاتجاه المعاكس في شارع الإليزيه. لكن سرعان ما أفرج عنه لتمتّعه بالحصانة الدبلوماسية. ولم يكد يمر شهران، حتى استدعت له إدارة أحد فنادق عاصمة الأنوار الشرطة بعدما اعتدى بالضرب على صديقته الحامل (وكانت لبنانية). وقد جرّدته الشرطة من مسدسه وصادرته. ولم تمض أيام حتى استدعى فندق آخر الشرطة لأن هنيبعل شرع في تحطيم أثاثه. كلها حوادث أُعلنت لأنها حصلت في دول أوروبية، لكنّها بالتأكيد ليست سوى قمة جبل الجليد، وما خفي كان أعظم.
للأمانة، يجب التأكيد أن ظاهرة هنيبعل ليست حكراً على ليبيا، بل هي منتشرة في عالمنا العربي. الأساطير التي تُروى عما كان يفعله عدي وقصي صدام حسين خير شاهد. وما فعله عيسى بن زايد آل نهيان قبل أشهر يعدّ آخر صيحات أبناء الرؤساء العرب. قام بتعذيب تاجر حبوب أفغاني يتهمه بالاحتيال عليه، وصوّر ذلك على شريط أظهره أيضاً وهو يطلق النار من سلاح آلي حول الضحية ويحشو فمه بالرمل، ويصبّ الملح على جروحه. مشاهد جعلته يتفوّق على هنيبعل في تصنيف «فوريين بوليسي» التي رأت أن عيسى أصبح «مرادفاً للسادية وسوء استغلال السلطة».
وهي أيضاً ظاهرة تضرب جذورها عميقاً في التاريخ العربي، بإرثه الاستبدادي والتسلّطي. لكنّ الجديد فيها، في حالة هنيبعل، هو أن بلداً ضربته الحداثة وأشبعته ديموقراطية الإنسان وحقوقه ودولة قانون وما إلى ذلك من قيم «قرعوا» رؤوسنا بكلامهم عن ضرورة تعميمها، وينتمي إلى قارة إمبريالية متعجرفة استعمرت دول الجنوب لمئات السنين، يبعث برئيسه إلى طرابلس لتقديم اعتذار رسمي إلى القذافي الأب على ما فعلته سلطات إنفاذ القانون في سويسرا بحق القذافي الابن المجرم.
لكن هل تُلام سويسرا، ذاك البلد الصغير نسبياً، وقد سبقها إلى تقبيل يد القذافي كلّ الفيلة الكبار؟ ألم تُصالح الولايات المتحدة من وصفته ذات مرة بأنه «كلب مسعور» بمجرد أن رمى حفنة من الدولارات لضحايا لوكربي وأعطى إشارة بإصبعه أنه قرر إجراء تعديلات في سياسته؟ أوَلم تضع فرنسا إحدى حدائق الشانزيليزيه في تصرّف الزعيم المفدّى ليفترشها بخيامه ونوقه وجماله بمجرد أن لوّح باستعداده لمنح استثمارات للشركات الفرنسية ببضع عشرات من المليارات؟ وإيطاليا، البلد المحتل السابق لليبيا، ألَم تعتذر عن هذا التاريخ الاستعماري وتدفع خمسة مليارات دولار تعويضات على أمل أن يمنّ عليها العقيد بعقود نفطية؟ وروسيا التي تجهد في استرضاء طرابلس على أمل بيعها أسلحة ومعدات نووية، وبريطانيا التي توّجت تقاربها مع ليبيا بإطلاق المقرحي....
إنه التاريخ وقد انقلبت الأدوار فيه رأساً على عقب. الشمال يسترضي الجنوب، لا العكس. لكنّ الهدف يبقى واحداً: نهب ثرواته. تغيّر الأسلوب: المداعبة بدل العصا الغليظة. اغتصاب بالرضى. ذهبت مطالب الدمقرطة أدراج الرياح. اقتنع أهل الحل والعقد في الشمال الرأسمالي مجدداً بفوائد الأنظمة الديكتاتورية. ها هم يغازلون كوريا الشمالية وسوريا وإيران، ويداعبون مصر والسعودية وليبيا. يُجلّون الرؤساء وينحنون أمام صلف الأبناء، حكام المستقبل.
وهناك من غصّ بسامي ونديم وسليمان وإميل ودوري وسعد...