بجوار القرنة السوداء، من أعالي قضاء طرابلس باتجاه الشرق، يمكن مشاهدة كتل الغبار التي تخلّفها حركة الجرارات الزراعية في سهول الهرمل. هنا اجتمع نحو مئة شرطي ومزارع في عشرات الآليات العسكرية و«التراكتورات» للقضاء على عدوّ أتى من تحت الأرض
الهرمل ــ الأخبار
انطلقت الثلاثاء الماضي عملية مكتب مكافحة المخدّرات في الشرطة القضائية، بمساعدة بعض أصحاب الجرارات الزراعية، لاتلاف النباتات الممنوعة في البقاع الشمالي. واستعادت أجزاء كبيرة من سهول الهرمل لونها الأحمر، بينما جُمع «الأخضر» وأُعدم حرقاً بنار الضابطة العدلية. غير أن بعض المزارعين الذين قابلتهم «الأخبار» أمس أصرّوا على أنهم لن يتوقفوا عن زراعة الممنوعات لحين توافر مصادر أخرى توفّر لهم لقمة العيش: «شو بدنا نزرع؟ ما كلفة زرع البطاطا والبصل بتوازي حقهّن» يقول أحدهم وهو يشاهد عن بعد عناصر قوى الأمن الداخلي مدججين بالسلاح يهمّون بنزع شتل القنب الهندي من جذورها. ويجيب زملاؤه بالضحك والتهكّم عندما يسألون عن الخدمات الصحية والاجتماعية والتربوية التي تقدّمها لهم الدولة: «ما شفنا من الدولة إلا العسكر».
فمنطقة بعلبك ـــــ الهرمل تعاني إهمال الدولة وتجاهل وزارات الزراعة والتربية والصحة والشؤون الاجتماعية فيها لحاجات المواطنين الأساسية، بينما يُستنجد بوزارات الداخلية والدفاع والعدل للقضاء على أعمال جرمية لا يقلّ عددها وضررها عن أعمال جرمية في باقي المحافظات اللبنانية. لكن مجلس الوزراء يصرّ على ما يبدو على تخلّفه المستمرّ منذ الطائف عبر عدم اهتمامه بقواعد العلوم الاجتماعية التي تشير إلى الربط بين الوضع الاجتماعي والسلوك الجرمي.
على أي حال، ما زال المعنيون في قضية المزروعات غير القانونية على مواقفهم. فهذا العام، كما خلال موسم الإتلاف في كلّ عام، تكرّر الشرطة إعلان إصرارها على القضاء على نبتتي القنب الهندي (المصدر النباتي لحشيشة الكيف) والخشخاش (المصدر النباتي للأفيون والهيرويين) في البقاع. ويؤكد أحد الضباط المشرفين على عملية الإتلاف في الهرمل أنه «لا استثناءات. نحن هنا لإتلاف الزراعات الممنوعة أينما وجدت ولا نسأل عن صاحبها». لا يبدو الضابط متحمساً لتوقيف أيٍّ من المزارعين، ولو توافرت لديه دلائل على زراعته الممنوعات. يهمس «ما بدنا مشاكل مع أهل المنطقة» ويتابع عمله.
يكرّر بعض المزارعين وعائلاتهم الاحتجاج على عمليات الإتلاف، مطالبين بالزراعات البديلة، ومؤكدين أن دوافع زراعة الممنوعات ليست جنائية، بل تحكمها «ضرورات العيش» في منطقتهم المهملة. غير أن تأكيدهم ما تكرّره القيادات الأمنية عن عدم وجود استثناءات وعن جدّية عملية الإتلاف وشموليتها كان لافتاً: «ما رح يتركوا شي... وين ما في حشيش في إتلاف». وقد يفسّر ذلك إمّا تعبيراً عن امتعاضهم من شمولية عملية الإتلاف وإما اعترافاً بها للتخفيف منها ولتتوقف عند هذا الحدّ بينما يزرعون بعضاً من الممنوعات في مناطق يصعب وصول آليات قوى الأمن إليها.
القضاء يستمرّ بإصدار آلاف مذكّرات التوقيف بحقّ من تتوافر معلومات عن احتمال ضلوعهم في جريمة زراعة المخدرات وتصنيعها. أما التجّار والمروّجون الكبار، فلا من يقوى على القبض عليهم، وتقتصر إنجازات الضابطة العدلية في هذا الإطار على توقيف بعض «تجّار الصفّ الثالث والرابع» كما يسمّيهم مختار بلدة على ضفاف العاصي. وكانت شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي قد أعلنت في بيان صدر مطلع آب الجاري أن عملية إتلاف الزراعات الممنوعة ستنطلق في 11 آب، ثم تأجلت عملية الإتلاف إلى 18 آب لـ«عدم اكتمال الخطوات التمهيدية، وخصوصاً تلك المتعلّقة بالتنسيق مع الجيش اللبناني لمؤازرة قوى الأمن إذا تعرّض عناصرها لهجوم مسلّح».


التوقيف أو 5000 دولار؟

يملك حسين (اسم مستعار) أرضاً في منطقة جبلية تبعد أكثر من نصف ساعة بالسيارة عن الهرمل. «يستعير» منه أقاربه قطعاً منها لزراعة الحمضيات والخضار وربما القنب الهندي. احتفل الرجل بعيده السبعين وهو لم يغادر المنطقة منذ عقد عندما صدرت مذكرة توقيف بحقّه للاشتباه بزراعته الممنوعات في أرضه. «يمكن حدا قال للدولة إن بأرضي في شويّة حشيش فصدرت المذكرة بحقي. أنا ما معي 5000 دولار لخلّص حالي منها». يشرح حسين أن أهالي المنطقة الذين يعانون من المشكلة نفسها يدفعون مبالغ مماثلة لمحامين نافذين قادرين على تخليصهم من الملاحقة القضائية. حسين إذاً فضّل قضاء عقوبة السجن المؤبّد في أرضه لمجرّد اشتباه الدولة فيه بزراعة الممنوعات، بدل أن يعرّض نفسه للتوقيف.