همام الرفاعي *في البداية سُوِّقت NAFTA على أنها زواج الرأسمال والتكنولوجيا الأميركية المتقدمة من جهة، واليد العاملة المكسيكية الرخيصة من جهة أخرى. وغني عن البيان أنه يمكن تصنيع مكونات جهاز تلفزيون في المكسيك بنصف سعر كلفة تصنيعها في الولايات المتحدة الأميركية، إلا أن الصينيين يستطيعون تصنيع الجهاز نفسه وإيصاله إلى سوق الولايات المتحدة بعشر السعر.
وهكذا، فبدل تصغير الفجوة بين المكسيك والولايات المتحدة من طريق زيادة الأجور ورفع مستوى المعيشة في المكسيك، يجري عملياً ردم الفجوة بين الصين والمكسيك من طريق خفض الأجور في البلد المحاذي لأميركا الذي ما زال 48 في المئة من سكانه يعيشون بعشرين بيزو يومياً، أي ما يعادل دولارين أميركيَّين.
وإلى العجز عن خلق فرص عمل، فضلاً عن فرص عمل برواتب حقيقية وتضاؤل العائدات التي يرسلها العمال المكسيكيون من الولايات المتحدة، يضاف انخفاض أسعار النفط في السوق العالمية وتراجع قطاع السياحة بسبب تكاثر حوادث الخطف حيث تحتل المكسيك النسبة الأعلى في حوادث الخطف على المستوى العالمي وتستعر حرب شرسة بين عصابات تجارة المخدرات المتصارعة في ما بينها على مناطق النفوذ وبين هذه العصابات وقوات الحكومة الفدرالية.
والمفارقة أن الأموال المتأتية من تصدير المخدرات إلى الولايات المتحدة والمقدرة بنحو 40 مليار دولار سنوياً تمثّل مسكناً ناجعاً لأوجاع الاقتصاد المكسيكي المزمنة. أما الطامة الكبرى فتكمن في تسلل أموال المخدرات إلى قلب الحياة السياسية وإسهامها في تمويل الحملات الانتخابية، فيما البطالة والفقر يضغطان على القيم التقليدية للعائلة المكسيكية ويدفعان الشبيبة إلى أحضان عصابات المخدرات وأحلام الثراء السهل.
لقد كانت أولى مبادرات الرئيس المكسيكي فيليبه كالدرون بعد تسلمه مهامه، إعلانه الحرب على تجارة المخدرات وتكليفه القوات المسلحة المكسيكية هذه المهمة العويصة. وفسرت هذه المبادرة على نطاق واسع بأنها محاولة لاكتساب الشعبية ولإضفاء الشرعية على حكمه بعد الشكوك القوية التي حامت حول انتخابات تموز 2006 الرئاسية التي أدت إلى فوز كالدرون اليميني على منافسه مرشح اليسار الوسط لوبز أوبرادور بفارق ضئيل. لكنّ إقحام الجيش المكسيكي في الحرب على تجارة المخدرات استدرج ردوداً عنيفة ومروعة من العصابات الإجرامية: إعدامات واغتيالات ورؤوس مقطوعة وأعضاء مبتورة والضحايا مدنيون عاديون وعسكريون ورجال شرطة وصحافيون وأحياناً أطفال أبرياء.
وفيما تدفع دورة العنف إلى عسكرة نواحٍ كثيرة من حياة المجتمع المكسيكي مع ما يحمله ذلك من مخاطر للحياة الديموقراطية ومن عثرات في مجال حقوق الإنسان، تظهر عصابات تجارة المخدرات التي تتمتع بإمكانات مالية هائلة مقدرة على اختراق الأجهزة الأمنية والعسكرية واهتماماً مقلقاً فعلاً بالتأثير في مجرى الحياة السياسية.
لقد حملت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة (تموز 2009) فشلاً جديداً لحزب الرئيس كالدرون، فيما تتعالى الأصوات حتى من داخل حزبه لسحب الجيش إلى الثكنات وعدم إغراقه في الرمال المتحركة لحرب عصابات المخدرات. كل هذا يحدث والحياة العادية للغالبية العظمى من المواطنين المكسيكيين تزداد صعوبة كل يوم بسبب فشل السياسات الاقتصادية. تتفاقم ضغوط المعيشة وتصبح أكثر استحالة متطلبات الحياة الأساسية، ويزداد شعور الناس بانعدام العدالة وترتفع حرارة التوترات الاجتماعية وتكثر التساؤلات والتكهنات بشأن احتمال حصول حراك اجتماعي كبير أو ظهور حركات عصيان مدني أو تمرد مسلح على نحو مفاجئ.
لقد كانت سنة 1810 سنة التحول الكبير الذي وضع حداً للسيطرة الإسبانية وقاد الى الاستقلال، وسنة 1910 سنة إطاحة الديكتاتور بورفيريو دياث وثورة الفلاحين بقيادة إميليانو زاباتا، فهل تكون سنة 2010 سنة التحولات الكبرى في المكسيك أيضاً؟
* كاتب لبناني