strong>حسين بن حمزةفي السادسة من عمره عثر حسن جوني على دفتر يحتوي أشكالاً نباتية تستخدمها أخته الكبرى في الخياطة والتطريز، فعرَف أنه سيصبح رسّاماً. بعد عامين، أهداه زوج عمته أقلاماً يحتوي رصاصها على ثلاثة ألوان، فسحره ذلك أكثر. ولأن الرسم قد يشغله عن المدرسة، استسلم لتأثير الشعر و«الفراقيات» التي اعتاد سماعها من زجّالين كانوا أصدقاء لوالده، إلى جانب دندنات فيروز، جارته المقيمة في بيت ملاصق لبيتهم في حي زقاق البلاط. قرأ المنفلوطي وجبران. كتَب الشعر ونشر بعض القصائد في جريدة «الطيار» التي كان يصدرها نسيب المتني. «شعرت بأن هناك توأمين في رأسي. كان على الشعر أن يتراجع ليولد الرسم». حدث ذلك بتأثير من صديق يكبره سناً هو أمين سعد الملقّب بـ «الأخضر العربي» الذي عرَّفه على الفنان رشيد وهبي، فنصحه الأخير بالانتساب إلى الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ALBA).
حين تخرّج كان ثوب الألبا قد ضاق كثيراً على موهبته، فسافر إلى مدريد على نفقته الخاصة، وأنهى السنة الإعدادية في «الأكاديمية الملكية للفنون»، قبل أن يحصل على منحة من وزارة الثقافة تكفل له إتمام السنوات الخمس التالية. لماذا مدريد، وليس باريس أو روما كما اعتاد الرسامون قبله أن يفعلوا؟ الجواب هو الفقر. حاول حسن جوني أن يكيِّف طموحاته الواسعة مع الضيق المادي لأهله، فاختار مدريد لأن الدراسة فيها أرخص. بعد ذلك سيعتبر نفسه محظوظاً بخضوعه لدراسة أكاديميّة صارمة ما كان سيحظى بها في مكان آخر. بالنسبة إليه «باريس وروما كانتا تعطيان الفنان الحرية في رسم ما يريد، حتى وهو في مطلع دراسته، بينما كان ذلك محظوراً علينا في مدريد. كان الأساتذة يقولون لنا: العبث ممنوع قبل التخرج. خذوا الأصول واعبثوا بها لاحقاً». بعد شهر على وجوده في مدريد، وجد حسن جوني نفسه في متحف البرادو أمام لوحة «حائكات النسيج» لفيلاسكيز. تأمّلها وقال لنفسه: «لن أعود إلى لبنان إن لم أرسم بكفاءة فيلاسكيز». كان ذلك الوعد بداية رحلة طويلة في تثقيف الحواس والمخيلة. «مدريد أعادت ترتيب أعصابي وحواسي، ونظَّفت وجداني وذهني. والأهم أنها سحبتني من منطقة العاطفة إلى التأمل الفلسفي والإدراك العميق، وعلّمتني أن اللوحة عمارة داخلية عميقة لا مساحات لونية فقط».
عقب تخرجه عام 1970، بدأت مسيرة حسن جوني مرحلة تجريدية تجلَّت في معرضين استضافتهما صالة «دار الفن والأدب» التي كانت تُديرها جانين ربيز. عام 1973، أقام معرضاً زاوج فيه بين الفن الغربي المثلث الأبعاد، والفن الإسلامي ذي البعدين. لم تستمر فكرة المعرض التي ستصبح لاحقاً مادة لأطروحة جامعية في تاريخ الفن، إذْ بدأت نُذُر الحرب الأهلية بالتجمع في سماء لبنان، وراح جوني يشتمّ رائحتها: «كنتُ أقول لزوجتي إنّني أشم رائحة دم، وتحوّل ذلك إلى كوابيس تشكيليلة قذفتني من التجريدية إلى التعبيرية المباشرة». الانعطافة الجديدة ظهرت في معرضين متتاليين عامي 74 و75 في «غاليري Contact». ثمّ بدأت الحرب فعلاً، وانعطف جوني نحو تعبيرية أكثر حدّة تجلّت في ثلاثة معارض أخرى. الحرب هجَّرته من بيروت إلى الجنوب، فاستسلم للطبيعة وصارت مساحات أعماله أكبر لكن بتفاصيل وجزيئات أقل. عاد إلى بيروت، فجذبته المقاهي وثرثرات روّادها المخلوطة بدخان السجائر. لعل مرحلة المقاهي والمشاهد المدينية التي واظبت على الحضور في أعماله بين عامي 83 و86 أسهمت أكثر من غيرها في ترسيخ إمضاء حسن جوني، وخلق نبرته التشكيلية التي أفردت له مكاناً على حدة بين رسّامي جيله ومن تلاهم.
لا تزال المدينة مادة خصبة وحاضرة بكثافة في معارضه الأخيرة. معرضه المقبل سيكون تحية أخرى إلى بيروت التي يحب رسم ماضيها أكثر من حاضرها. لماذا؟ يقول «إن بيروت الحالية شبيهة بامرأة أُسيئ إلى جمالها فبات مصطنعاً ومصبوغاً، وما نراه اليوم هو بقايا جمالها السابق. هناك لعنة وتراجيديا تحكم المدينة بمقدار ما هي محكومة باستثنائيتها وجمالها». الحروب والأزمات المتواصلة أطاحت طمأنينته حيال صورة المدينة المهددة دوماً: «اللوحة هي محاولة للقبض على المكان أو المشهد قبل تغيّره أو زواله». ثمّ يعترف: «الإبداع بحاجة إلى التأمل لا إلى الرعب. حين تشتدُّ الأزمات أعود إلى زقاق البلاط. أتأمل الأماكن والزوايا والروائح القديمة باحثاً عن حسن جوني الطفل، وعن بيروت الطفلة».
عمل حسن جوني على نفسه كثيراً كي يصبح هو ولوحته شيئاً واحداً. يقول إن على الرسام بتَّّ هوية لوحته مبكراً، ويرى أن العالمية تنطلق من المحلية، وأن الإبداع لا يتم بالنسخ بل بهضم التجارب الأخرى وتحويلها إلى إنجاز شخصي. لهذا لم تتسرب الموضة إلى أعماله. الحداثة بالنسبة إليه هي «الهوية والأصالة المتجذّرة في اللوحة. أي أن تُحدِث اللوحة رجّة حديثة في وعي المتلقي حتى لو كانت منجزة بعيداً عن الإثارات التي يُدعى أنها حديثة». يأسف جوني على حال الشبان الذين يركبون موجة الموضات السائدة غافلين عن اكتساب هوية أصيلة، فضلاً عن نسخ بعض الرسامين لتجارب غربية معروفة، مشبِّهاً الأمر بالوباء: «الموجات السائدة تصيب الرسامين ذوي الموهبة المشبوهة مثلما تنتشر أنفلونزا الخنازير أو الطيور في الأجساد ذات المناعة الضعيفة».
«العمر كله غير كافٍ لإنجاز لوحة». خطَّ حسن جوني هذه العبارة على باب محترفه الملاصق لمنارة بيروت القديمة. نسأله عنها، فيتنهد: «أنا محكوم بزمن محدد عليّ أن أترجم فيه كل التجارب الاجتماعية والذهنية والتعبيرية التي أعيشها وتتراكم في داخلي. الحسرة حاصلة لأن ذلك يتطلَّب أعماراً عديدة لا عمراً واحداً».


5 تواريخ

1942
الولادة في حي زقاق البلاط (بيروت)

1964
تخرج في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ALBA)

1970
تخرّج في «الأكاديمية الملكية للفنون» في مدريد

1997
الحصول على الميدالية الذهبية في بينالي اللاذقية (سوريا)

2009
يعمل على معرض جديد تستضيفه غاليري «ألوان»، سيكون تحية إلى بيروت