بعيداً عن السياسة وكلام رجالها، يحتدم الجدل الدستوري والقانوني حيال «حكومة تصريف الأعمال» وصلاحياتها. ثمة جدل كبير وقراءات متعددة في المهلة الزمنية المتاحة أمام المكلف تأليف الحكومة. وهذه النقطة تبرز كثغرة دستورية
محمد نزال
دخلت حكومة تصريف الأعمال شهرها الثالث، وما زال الغموض يلفّ مصير تأليف حكومة جديدة وموعدها. يصعب الفصل في مثل هذه الحالات بين البعدين السياسي والقانوني، فإن كان البعد الأول يحتمل المدّ والجزر، فإن الثاني لا يحتمل «المراوحة» بحسب أهل الخبرة من القانونيين.
هل حقاً أن لا مهلة دستورية وقانونية أمام المكلف تأليف الحكومة في استشاراته النيابية؟ هل هناك ثغرة دستورية تستوجب المسارعة إلى تعديل الدستور في أقرب فرصة ممكنة درءاً لأي اجتهاد قانوني «مسيّس»؟ وإذا صحّ وجود ثغرة ما، فهل سقطت سهواً عن بال المشرّعين، أم أن الإسقاط كان متعمداً في دستور الطائف، كما يشير أحد المجتهدين في القانون الذي كان أحد شهود تلك الحقبة ومن المتابعين لها؟
تنصّ المادة الـ 64 من الدستور اللبناني المعدّلة بالقانون الدستوري الصادر في 21/9/1990 على أنّه ينبغي للمكلّف تأليف الحكومة أن يجري استشارات نيابية لتأليفها، ويوقّع مع رئيس الجمهورية مرسوم التأليف. ويضيف البند الثاني من المادة المذكورة أنه بعد ذلك «على الحكومة أن تتقدم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوماً، من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها. ولا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة، ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة، إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال». يشير النص الدستوري إلى مهلة 30 يوماً لتتقدم الحكومة المؤلفة ببيانها الوزاري إلى مجلس النواب، لكن تغيب الإشارة الواضحة إلى أي مهلة تقيّد بموجبها الاستشارات النيابية لتأليف الحكومة. بيد أن هناك اجتهادات دستورية ترى أن مهلة الـ30 يوماً للتقدم بالبيان الوزاري هي نفسها المهلة لتأليف الحكومة، إذ يبدأ احتسابها ابتداءً من يوم التكليف، وصولاً إلى منح الثقة في مجلس النواب، نظراً لأن النص يدور في المادة الدستورية نفسها، بل في الفقرة نفسها، وبالتالي فإن قاعدة «توازي الأشكال» تصبح هي الحاكمة.
بُحثت المهلة المتاحة لتأليف الحكومة في الطائف، من دون الوصول إلى نتيجة
في هذا السياق، أكد وزير العدل السابق بهيج طبّارة أن «النواب والشخصيات الذين كانوا مجتمعين في اتفاق الطائف بحثوا في مسألة المهلة المتاحة أمام استشارات تأليف الحكومة، لكنهم لم يصلوا إلى نتيجة»، ما يعني أن وجود هذه الثغرة الدستورية ليست سهواً تشريعياً. ويضيف طبارة في حديث مع «الأخبار» أنه بعد بحث طويل لهذه النقطة آنذاك «جاء النص غير مباشر، لكن بكل الأحوال فإن فترة تصريف الأعمال يجب أن لا تكون طويلة». وفي ما يمكن أن تعنيه جملة «المعنى الضيّق لتصريف الأعمال» الواردة في الدستور، يشير طبارة إلى أن الحكومة تكون في هذه الحالة «مكبّلة، وتعيش كل يوم بيومه، ويجب أن لا تقوم بأي عمل يلزم البلاد مستقبلاً، فالبلد في حاجة إلى مشاريع ومخططات، لكن حكومة تصريف الأعمال لا يحق لها أن تتولى هذه المهام، إلا بظروف خاصة وطارئة، حيث يمكن أن يتوسع مفهوم تصريف الأعمال».
من جهته، أعرب رئيس مجلس شورى الدولة سابقاً، الدكتور يوسف سعد الله الخوري، عن أسفه لكون الدستور «لا يعطي الحق لرئيس الجمهورية بأن يبتّ ويفصل في مسألة تأخر تأليف الحكومة لأي سبب كان، لكون هذا التأخير يؤدي إلى تعطّل المرافق العامة في البلاد، إضافة إلى التأثير السلبي على الحياة المعيشية للناس». وطالب الخوري في حديث مع «الأخبار» بتعديل الدستور لجهة وضع مهلة زمنية واضحة لتأليف الحكومة، كما هو الحال مع رئيس الجمهورية المحكوم بمهل زمنية لتوقيع القوانين والمراسيم، «فلماذا يكون في لبنان استثناء دستوري يتخلف فيه عن كل الدول والديموقراطيات في العالم؟ فللأسف، حتى عدونا الإسرائيلي في دستوره مهلة لتأليف الحكومة». وعن معنى عبارة «تصريف الأعمال»، أشار القاضي الخوري إلى أن الحكومة عندما تستقيل «فإنها لا تمارس إلا الأعمال الضرورية، أي التي لا بد منها، وهذا ما يؤدي إلى مشكلة في تسيير شؤون الناس والبلاد، إذ إن تعيين موظف في بعض الأحيان يحتاج إلى جلسة لمجلس الوزراء للإقرار، وكذلك جداول الرواتب وسواها من القرارات». تجدر الإشارة إلى وجود اجتهادات دستورية مختلفة في تحديد ما إذا كانت هذه القرارات «عادية» أو «طارئة»، وبالتالي فإن اللغط نفسه ينسحب عليها أيضاً.
بدوره، أوضح عضو المجلس الدستوري سابقاً، الوزير خالد قباني، أن المادة الـ 64 من الدستور تتحدث عن تصريف الأعمال بالمعنى الضيّق، وهذه الجملة تعني أن مجلس الوزراء لا ينعقد ولا يمارس صلاحياته ما دامت الحكومة مستقيلة، لكن فقط تقوم بالأعمال العادية واليومية، وذلك لتسيير مصالح المواطنين وتدبير الشؤون العامة، إلا إذا حصلت ظروف استثنائية.
أما عن المهلة الدستورية لتأليف الحكومة والاجتهادات القانونية فيها، فرأى قباني في حديث مع «الأخبار» أنه يجب أن نحتكم إلى الدستور «الذي لا يحدد مهلة زمنية لرئيس الحكومة المكلف»، وأضاف أنه «يجب الانتباه وعدم الخلط بين مهلة الثلاثين يوماً لتتقدم الحكومة ببيانها الوزاري، والفترة المتاحة لتأليف الحكومة، فالأخيرة مفتوحة وغير محددة، لكن إذا عدنا إلى المبادئ العامة التي أقرها الاجتهاد الإداري سواء في لبنان أو فرنسا، فإنه إذا لم تحدد القوانين والدساتير مهلة معينة لاتخاذ تدبير مهم يتعلق بالمصلحة العامة، فالاجتهاد يرى أن هناك مهلة معقولة لاتخاذ التدابير، على أن لا تكون إلى ما لا نهاية».
من جهته، أكد الوزير السابق المحامي مخايل الضاهر أن الدستور أعطى رئيس الجمهورية صلاحية تسمية رئيس للحكومة عبر مرسوم قانوني، وبعد تأليف الأخير للحكومة، يصدر رئيس الجمهورية مرسوماً لتعيين رئيس الحكومة المكلف. ورأى الضاهر أنه «لا يجوز أن تترك البلاد بلا حكومة في ظل الأوضاع الحالية، إذ لا تستطيع حكومة تصريف أعمال أن تتصدى للتحديات الراهنة على كل الصعد».
أخيراً، يُعَدّ العُرف أحد مصادر القانون، ويُلجأ إليه في حال عدم وجود نص قانوني معيّن. ماذا عن المهل التي استوفتها الحكومات السابقة للتأليف؟ هل كرسّت عرفاً معيّناً؟ من جهته يرى طبارة أن المدة الزمنية الممتدة من اتفاق الطائف حتى اليوم لم تكن كافية لتكريس عُرف ملزم. أما القاضي الخوري فلا يرى مكاناً للعُرف أمام وضوح النص، إذ إن النص الدستوري قاطع مانع «ولا عُرف مقابل نص». وأخيراً الوزير قباني لا يرى أن للعرف تأثيراً في هذه الحالة، ويشير على سبيل المثال إلى «السابقة الشهيرة» في عهد حكومة الراحل رشيد كرامي عام 1969 التي استمرت في تصريف الأعمال أكثر من 6 أشهر، لكن «مع ذلك لا يعني أن هذه هي المهلة الحقيقية، لكن الظروف السياسية هي التي كانت حاكمة، كما هو الحال اليوم».


الحكومة ورئيسها في الدستور

تنص المادة الـ 69 من الدستور اللبناني المعدّل في 21/9/1990 على أن الحكومة تكون مستقيلة في الحالات الآتية: إذا استقال رئيسها، إذا فقدت أكثر من ثلث عدد أعضائها المحدد في مرسوم تأليفها، في حال وفاة رئيسها، عند بدء ولاية رئيس الجمهورية، عند بدء ولاية مجلس النواب، عند نزع الثقة منها من المجلس النيابي بمبادرة منه أو بناءً على طرحها الثقة.
تنص المادة الـ 64 على أن رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة، يمثلها ويتكلم باسمها ويكون مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء. وهو يمارس الصلاحيات الآتية: يرأس مجلس الوزراء ويكون حكماً نائباً لرئيس المجلس الأعلى للدفاع، ويجري الاستشارات النيابية لتأليف الحكومة، ويوقّع مع رئيس الجمهورية مرسوم تأليفها. وعلى الحكومة أن تتقدم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوماً من تاريخ صدور مرسوم تأليفها. ولا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة، إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال.