Strong>نوال العليكان الرفاق يتسكّعون في أحد شوارع بغداد، بينهم شاب بشعر طويل وبنطلون «شارلستون»، حين وقفت شاحنة عسكرية وهبط منها ضبّاط مسرعون. حدث ذلك سنة 1973 وقد أُعلنت الحرب في القاهرة، وبدأ التفتيش عن الشباب المكلّفين للتجنيد.
من بين كل رفاقه ساقوه هو إلى الشاحنة. شعره استفزّ الضابط، فسأله ساخراً «من وين جاي إنت؟»، وربما تمتم بصوت خفيض «من باريس». أجلسه على صندوق حديدي وكانت حلاقة متطرفة وهازئة وقاسية على الطريقة العربية، أظهرت «قرعة» رأسه الصغير. وحين صار جاهزاً، اصطحبوه إلى ثُكَن العسكر... هكذا وجد نفسه شوقي عبد الأمير جندياً.
نجلس الآن أمام ذلك الشاب الستيني، جنتلمان على طريقته، لا شرقية ولا غربية. وعندما تريد أن ترسم بورتريه لعبد الأمير، فلا بد أن تدرك قوة المكان في حياته. إنّه رجل اللامكان وصاحب «ديوان المكان». المدهش فيه أنّه نفى المكان بمعناه الجغرافي، واستدرجه بمعان أخرى. التقيناه وهو يكتب مقالاً بعنوان «موت المنفى». يقول «ما تحكولي عالغربة الله يخليكوا، لولاها لما رأيت هذا الجمال، ولما كتبت هذه الكتابة، ولا عشقت هذا العشق».
كم هو أمر مغرٍ، الإصغاء إلى حيوات الآخرين وهم يروونها في ساعة. الذاكرة مدرّبة على استعادة هذه الحياة الزخمة، بل شغوفة بالماضي الذي يلمع كلما تقادم عهده. مشى على جسر في قرية «سوق الشيوخ» على الفرات مثلما تجوّل على ضفة السين في باريس، وهذه حاله اليوم حين يهرول على كورنيش بيروت. لذلك، يبدو صاحبنا أصغر من عمره، ربما تعطيه بيروت مسحة من شبابها. «يكفيني في بيروت أن أكون نفسي».
هذا هو ابن الناصرية التي «لم يبق منها إلّا قمرها»، وفيها تكوّن ليبيدو الشاعر ومعرفته اللاواعية. كان خاله الشاعر رشيد مجيد ينتقيه بين أطفال العائلة، ويقرأ عليه الشعر حتى تحمّر عيناه ويبكي، فيترك الطفل مذهولاً يسأل نفسه: «لماذا يناديني أنا دون الآخرين؟».
الناصرية لها مكانتها الوجدانية عند العراقيين. هي مسقط رأس معظم المبدعين، ومكان انبثاق الحزب الشيوعي. في جنوب العراق، كان لكل عائلة مكتبة، ولكل مكتبة اسم، و«الأخويّة» هي مكتبة
آل عبد الأمير، منها التقط شوقي ديوان «الشوقيات»، وظهرت قصيدته الأولى باسمه الأصليّ «أحمد شوقي عبد الأمير الحمداني». اسم كبير وثقيل على شاعر شاب. ما العمل؟ ولا سيما أنّه سيلقي بقصائده العمودية في المهملات، ويصدر ديوانه الأول «حديث لمغني الجزيرة العربية» شعراً حراً نكاية بشعراء القصيدة التقليديّة.
ستينيات بغداد تشبه ستينيات بيروت: ظهر البيان السريالي الأول ووقّعه سامي مهدي وفاضل العزاوي وخالد علي مصطفى، وضجّت معركة الحداثة حتى على صعيد التشكيل مع شاكر حسن آل سعيد وفائق حسن. وحفلت المدينة بالمسرح مع عوني كرومي وصلاح قصب، ووجدت قصيدة النثر مكانها عبر مجلة «الكلمة»، وترافق كل ذلك مع الحراك السياسي. مع ذلك، لم ينضمّ عبد الأمير إلى أي تنظيم. وحين دفع ديوانه الأول «حديث لمغني الجزيرة العربية» إلى «مطبعة الأديب» منعته الرقابة بسبب قصيدة «الجسد الآخر»: «ولي جسد غير قاسيون/ وغير الجزيرة/ غير المدائن يفتحها المسلمون».
خشيت العائلة أن يصيب ابنها مكروه، فأرسلته إلى ولاية جيجلو في الجزائر عام 1970. هناك، دفن ليبيدو الطفولة وولد عبد الأمير من جديد في غرفة ضيقة في خان، وعلى سرير قش متعفن. سيغتسل في حوض مليء بالحشرات، ويعيش مع قبائل عنيفة تعرف القليل من العربية، سيعلِّم تلاميذ أكبر منه في صفوف مختلطة وبلاد خارجة من حرب التحرير الدامية. «حياتي كلها سقطت، حتى مفهومي للشعر سقط، مثل قشرة الطين اليابسة».
بعد توفير مبلغ يكفي لخوض مغامرة بدء حياته في باريس، ركب البحر إلى فرنسا ولم يتمكن من البقاء سوى أشهر عاد بعدها إلى بغداد، حيث لقيه ضباط التجنيد. لكنه عاد ليتابع حلمه الباريسي، فسجّل للدكتواره في السوربون، ولم يكن هدفه سوى الحصول على إقامة. حتى إنه تخلى عن متابعة الدراسة ما إن حصل على إذن إقامة وعمل.
في 1977، أصدر من غرفته الطلابية مجلة «العالم العربي في الصحافة الناطقة بالفرنسية». وما لبثت أن لقيت صدى لدى الجامعة العربية، وصارت السفارات العربية مشتركة فيها. عندها سبّبت فضيحة للمسؤول الإعلامي في الجامعة آنذاك، إذ رأى الجميع أن شوقي يقوم بعمله هو، فمنع المجلة من الصدور.
لكن الحظ كان يسعف صاحب «أبابيل» دائماً. صار مستشاراً إعلامياً في سفارة اليمن الجنوبي، ورئيساً للمركز الثقافي اليمني في باريس لمدة 17 عاماً. بعد وقوع الحرب الأهلية اليمنية، انتقل إلى العمل في الأونيسكو مستشاراً للعلاقات الثقافية، ثم انتقل عام 1995 إلى بيروت لتأسيس مشروع «كتاب في جريدة» وظلّ مستشاراً للأونيسكو حتى سقوط النظام العراقي عام 2003، فعيّن مندوباً دائماً للعراق في المنظمة الدولية. وفي 2007، حوّل «كتاب في جريدة» إلى مؤسسة مستقلة...
باريس هي السبب. هي التي جعلت عبد الأمير كما هو اليوم: حراً متأملاً شاعراً بقصيدة خاصة ومتجددة، تعرف بمشاهير الكتّاب والمسرحيين، ويذكر بيكيت الذي قال له «أحسن أشكال القراءة هي الترجمة». نصيحة أخذ بها فترجم ما أحب، وأحب ما ترجم.
تدخلّت مدينة النور في شعره لغةً ومضموناً: «نحن مأخوذون بالجمال كهدف. والغرب مشغول بالحقيقة كهدف. أجمل من أن يقال «هذا جميل»، أن نقول «هذا صحيح» لأن الحقيقة جميلة والجمال مموّه». بين الحقيقة والجمال شعرة، لا يقطعها عبد الأمير بل يرخيها تارة ويشدها تارة. علّمته باريس أن يجعل من حياته قصيدة أنيقة، وعلّمه شاعر بابلي قديم أن الأرض هي أرض الداخل، والغربة الحقة هي النفي عنها. مع ذلك «كنا نفرح عندما يقال لنا إنّ كتابكم وصل إلى العراق، وجرى نسخه وبيعه في سوق المتنبي، لأنّ ذلك كان همنا الأوّل. كانت يوميات الهم العراقي تصل إلينا هناك، لكننا كنّا نريد الشعور بالأمل».


5 تواريخ

1949
الولادة في الناصرية (جنوب العراق)

1967
صدر ديوانه الأول «حديث لمغني الجزيرة العربية» في مطبعة عراقية في باريس

1974
الانتقال إلى باريس والالتحاق بجامعة «السوربون» لإتمام دراسته في الأدب المقارن

1977
بدأ عمله الدبلوماسي مستشاراً إعلاميّاً في السفارة اليمنية

2009
يصدر له قريباً ديوان «محاولة فاشلة للاعتداء على الموت» (دار الجمل)