الويل للفقراء الخارجين على السلطة الثقافية وعلى سلطة الذوق، عندما يجرؤ أحدهم ويبدي رأيه في ما يهواه البرجوازي «المتذوّق»، وفي ما هو أساس البرجوازي الحسي في تمايزه عن الفقير وفي شرعنة سلطته على الفقير. ضمن هذا الإطار الموضوعي يمكن وضع قصة تعاطي تلفزيون «المنار» مع استضافة مهرجانات بيت الدين للممثل الهزلي جاد المالح وتعاطي لجنة المهرجانات وبعض الصحافة مع تلفزيون «المنار» في هذا الشأن
رائد شرف *
ويلٌ للفقراء عندما يتدخل أحدهم في مسائل «الذوق». فالذوق، كما برهن بيار بورديو في كتابه «لا دستنكسيون» (La Distinction)، هو من ركائز النظام الاجتماعي الذي يقدم نفسه «ليبرالياً» والذي تسيطر على مؤسساته الثقافية البرجوازية. و«الفن»، الذي يستند إلى حكم الذوق، «شاء أم أبى»، يقول بورديو، كما يقول السيد حسن نصر الله في مناسبة مشابهة بمعاييرها، يؤدّي دوراً أساسياً شأنه في ذلك شأنه في كل مسائل الذوق في التقسيم الأيديولوجي والحسي للمجتمع والناس وفي بناء آراء بعضهم تجاه بعض، وبالتالي تقويم بعضهم لبعض وتعاطي بعضهم مع بعضهم الآخر.
ليل ٢٤ حزيران ٢٠٠٩، لفتت قناة «المنار» الأنظار في مجرى نشرتها الإخبارية إلى أن اللبنانيين سيستمتعون بأداء ممثل «يهودي» مؤيد للصهيونية على أدراج مهرجانات بيت الدين في يوم ١٢ تموز الذي يصادف ذكرى العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز ٢٠٠٦. وألحقت الخبر بمجموعة من البراهين، المأخوذة من مواقع متعددة على الإنترنت. بين هذه البراهين، اثنان لم يشكّك في صدقيتهما أحد في خضم المجادلات الصحافية التي تلت تحقيق «المنار». وهما البرهانان اللذان ستتمسك بهما «المنار» عن طريق مراسلها في المؤتمر الصحافي الذي عقدته لجنة المهرجانات في القاعة الزجاجية لوزارة السياحة في الحمرا، واللذان لن يلقيا تعليقاً أو رداً من منظمي المؤتمر. البرهان الأول مقابلة مع المالح يبدي فيها تعلقه الوجداني بالدولة الصهيونية. والبرهان الآخر هو خبر مشاركة المالح في حملة تضامنٍ مع الجنديّ الإسرائيليّ جلعاد شاليط الذي أسرته المقاومة الفلسطينية عام ٢٠٠٦.
ما قالته «المنار»، في أول تحقيق بثته، لا يعدو كونه ملاحظة في إطار تصويب الأمور: أن الرجل مؤيدٌ لإسرائيل. طبعاً، أرفقت تقريرها بذكر أصل جاد المالح «اليهودي»، وهي ممارسة عند بعض إعلاميي «المنار» وغيرها أقرب إلى «التذاكي» عند بعض البرجوازيات الصغيرة «المتدينة» منها إلى عقلٍ طائفي أو عنصري متطور، كما هي حال «المنار» فعلياً في تعاطيها مع بعض الفئات الشعبية اللبنانية (ليس بعدوانية، لكن بالتقويم). إذ ليس هنالك تعاطٍ يومي لصحافيي «المنار» مع «يهود» (الهوية، أو الانتماء) كفيل بتكوين نظرة سياسية عندهم تقارن تحليلياً بنظرتهم إلى فئات الشعب اللبناني التي أنتجتها ديناميكيات المجتمع اللبناني وديناميكيات المجتمع السياسي ـــــ الإعلامي اللبناني بالأخص الذي يسبح فيه صحافيو «المنار». فصحافيو «المنار» في هذا الموضوع، يمكن مقارنتهم ببعض الفئات الشعبية في فرنسا التي تصوت لـ«الجبهة الوطنية» العنصرية ضد العرب مع أن مناطقها خالية خلّواً شبه تام من ذوي الأصول الأجنبية الجديدة الهجرة إلى فرنسا (في الخمسين السنة الماضية). أي، يجب البحث في أسباب حديثهم عن «اليهود» في مكان غير النظريات المقارنة بتجربة «ألمانيا في الثلاثينات»، وغيرها من النظريات الموجودة في لبنان، المدعية «الحياد التحليلي» والكاشفة في هذه النقطة بالذات عن تجذّرها في المنطق العادي المهيمن، المقسم للمجتمع على أسس «التجوهر» و التعميم السهل الذي من مشتقاته البنيوية العديدة، «الطائفية». كما أن حزب الله لا يوفر مناسبة ليبدي فرحه بتجلٍّ «يهودي» يؤيد قضيته. أما «يهودية» المالح، فلم تتمسك بها «المنار» بعد هذا الملحق، مؤكدة نظرية سطحية هذا القول عند موظّفيها.
لم تتكلم «المنار» كثيراً، وقد اكتفت بإبداء الملاحظة على ظروف المناسبة الاحتفالية وعلى معضلة «دعوة» المالح من جانب لجنة المهرجانات. وهي معضلة «المقاطعة». لكن الاقتصاد في الكلام لم يكن هو القاعدة في «المقابل». وهذا موضوع دقيق بقدر ما هو مهم، فنادراً ما يقدم العالم الاجتماعي مناسبات من هذا النوع المفصلي الذي يخلط «السياسة والثقافة والدين» على ما يقول سامي الجميل، لإبراز بعض الحقائق الموضوعية.
بين الجهات المقابلة لقناة حزب الله الأكثر نشاطاً في هذا الموضوع تقع صحيفة «لوريان لوجور» المنفردة بالفرنكوفونية في لبنان بفضل قانون تنظيمي لرخص الصحف يليق بكوريا الشمالية، مما يجعل «الفرنكوفونية» في لبنان، عندما تنطق، تبدو على قياس بروباغندا كوريا الشمالية (ناقصاً التكنولجيا النووية). وفي هذا الإطار، قد يكون مقال ميشال حاج جورجيو ( «لوريان لوجور» في ٢٥/٠٦/٢٠٠٩) النموذج الصافي في العلاقة البنيوية التي تجمع بين موقع موظفي قناة «المنار» ومجموع الكّتاب الذين انتقدوا القناة ومن ورائها حزب الله. إذ إنه يحتوي على أبرز الصفات المرادفة لهذه العلاقة والموجودة في معظم المقالات الأخرى. فالمقال خالٍ من الفذلكات التزيينية ومن أي سعي إلى التحليل سوى غمزة في آخره إلى ما كتبه حج جورجيو في مناسبة أخرى عن «المقاومة الثقافية»: إنه يضع نفسه متحدثاً باسم الجمهور الشاري لبطاقات الحفل ويقول لحزب الله إن اعتراضه غير مرغوب فيه لأن الناس لا يهمهم آراء المالح السياسية.
ما هو منطق حج جيورجيو؟ إنه غير موجود. فبالنسبة إليه، الموضوع خارج نطاق النقاش. لأن حزب الله غير الجمهور الذي سيحتفل بجاد المالح. يبرز نص جيورجيو التقسيم المنطقي والحسي للأدوار وللمجتمع عنده وعند زملائه، بما فيه دوره الخاص. إذ إن المواطنين عنده أشبه بمعطى ثابت، لا يمكن التلاعب به، شبيه بالمعطى «الانتخابي» في القراءة الطائفية للانتخابات التي شهدتها البلاد أخيراً. هم عنده أرضٌ ثابتة مؤلفة من «عصبيات» (وجيورجيو يهوى المصطلحات الاستشراقية التي لا تفسّر شيئاً)، لا يعنيه منها إلا «عصبيته» الخاصة بجمهوره، جمهور بطاقات المهرجان في بيت الدين. وكيف لا يرى المجتمع كذلك؟ فالنظام اللبناني، على ما تقوله التقديرات، طرد ما يوازي ثلث الطبقة العاملة من البلاد في السنين الحريرية الماضية. أي الطبقات البرجوازية الصغيرة، أو الوسطى، التي ما كان من الممكن أن تغويها بكامل أعضائها الوجوه القذرة للنظام التي تسحر جيورجيو وغيره من الإعلام الحريري وغير الحريري. وهي الطبقات التي كان لا بد من أن تأتي بتغيير أو نشاط اجتماعي مع صعودها المهني أو حتى مع صعود طموحاتها المهنية. ما كان لجيورجيو أن يستطيع أن يفلت من تلمس نشاطها كما يفلت منه نشاط الطبقات الفقيرة، الأكثر بعداً منه اجتماعياً، وذات النشاط الأكثر بطئاً في التجلي نظراً إلى موقعها الدوني في منظومة التغطية الإعلامية. لو كان لطبقة صحافيي البلاط أدنى احتكاك بما يحويه مجتمعهم من ناس، كيف كانوا سيخرجون بشعارات مثل «جمهورية السترينغ» ويحتفلون بها على أنها «مقاومة ثقافية»؟ كيف كانوا سيبهرون ويكتفون بتصريحات البطريرك الماروني ورديفه «العلماني» الوزير بارود «الفظيعة الجرأة» والمسمّية «لكل شيء باسمه»؟ هل يشعر هؤلاء بما يشعر به من تهدّم بيته في عيتا الشعب مثلاً؟ أو من خرّبت مردود مصنعه الحرفي سياسات النظام الجمركية؟
أما عن مقاطعة المنتجات الصهيونية (التي يخلط بينها وبين مقاطعة المالح)، فهي «غبية» في مقال الصحافي جيورجيو، لأن... للنظام السوري مفاوضات قائمة مع إسرائيل. كما أن الحرب مع إسرائيل هي «حجة» لفرض الرقابة على بعض المنتجات: هل يقصد جيورجيو منع كتاب «دا فينشي كود» المضجر الذي فرضه هذا المقاوم الثقافي القدير الذي هو البطريرك الماروني؟
وهنا تبرز وقاحة الايديولوجيا المهيمنة في أقصى تجلياتها. إذ تكاد كل النصوص المعنية بالموضوع أن تصور «حق» المقاطعة (بما أن «الليبرالية» تتكلم عن الحقوق) على أنه إما «رقابة»، وما يحمله هذا النعت من تهويل، وإما شغلة «الغوغاء». طبعاً في جريدة «لوريان لو جور» حدّث ولا حرج عن الصفات العنصرية، على شكل تنظيري كما على شكل هجائي صرف. فقد باتت للجريدة مصطلحاتها «القتالية» التي تعود إليها، بعدما نشرت ملحقاً خاصاً بعنوان «مقاومة ثقافية» عشية الانتخابات جنّدت فيه ما هب ودب من أسماء «الثقافة والرأي» في لبنان للتنظير بشأن قضايا المجتمع كافة تحت جناح بكركي والأب سليم عبو وغيرهما من «العلمانيين» الذين افتتحوا الملحق. اللافت في موضوع «لوريان لو جور» هو تطرفها التحريضي الذي يفوق نظيراتها من الإعلام المواجه لحزب الله، بما فيهم جريدة «المستقبل»، مما يؤكد إفلاتها من شروط اللعبة السياسية وعدم انضوائها تحت تيارات هذه اللعبة الأكثر براغماتية وما تفرضه من مناورة في الكلام. يتجلى ذلك في الظهور النادر لصحافيّيها في البرامج السياسية على التلفزيون، إذ يبدو أن زملاءهم لا يأخذون الصحيفة الفرنسية على محمل الجد. إنها تكاد تمثّل مختبراً مهماً لميول الأيديولوجيا المهيمنة في ما تحمله من معتقدات دفينة، لا تبرز في الإعلام الناطق باللغة العربية بسبب القليل من الرقابة التي يفرضها أعضاء الطبقة السياسية على هذا الإعلام، بالأخص أن التحريض باللغة العربية له نتائج أكثر فعّالية على الأرض الاجتماعية لأنه قابل للاستعارة على التلفزيون.
أما ثرثرة «لوريان لو جور» والاستنتاجات التي خرج بها محرّروها بشأن تصريح حزب الله بـ«المقاطعة»، فما هي إلا دليل على تطور المنظومة الأيديولوجية للطبقة المهيمنة، وعلى مستوى إمكاناتها في الإتيان بالأجوبة الرمزية والمنطقية للجمهور الذي تشمله. هذا فقط للجمهور الفرنكوفوني.
المقاطعة سلاح الضعفاء، سلاح من ليس لديه السبل المؤسساتية (مثل ترؤس المهرجانات أو الجامعة اليسوعية) لإيصال فكرته. المقاطعة، و على عكس ما يقوله بعض المنطق البرجوازي الصغير المعمّم لنفسه، ليست «خوفاً» سيكولوجياً أو إيروتيكياً وما إلى ذلك من «الآخر» ومن مواجهته. المقاطعة هي لمن ذاق «الآخر» وشبع منه. هي وسيلته لإسماع «الآخر» أن سلوكه مؤلم، ويلحق الأذى. وهي سلاح «سلمي» كما تحبّه البرجوازيات في المجتمعات «السلمية». لكن الايديولوجيا المهيمنة في لبنان أوقح من نظيراتها في الديموقراطيات البرجوازية، تقلب المعايير وتنظر إلى «المقاطعة» كأنها سلاح فتّاك... يكاد يهدّد حياة الفنان المالح بالقتل. بتضخيمها لمفعول «المقاطعة» تكشف منحاها الصدامي إلى أقصى الحدود مع كل أشكال الاعتراض. كما تكشف عنصريتها الاجتماعية تجاه قسم كبير من الشعب، وهي تشعر به أينما جالت في الوطن وتتحسّسه «تهديدا». هذا القسم الكبير الذي تفترض هي نفسها أنه يؤيد «المقاطعة»، ولكنه القسم الذي، إذا قيس حجمه الشعبي بمستوى قراره في جهاز الدولة ومؤسسات توزيع الثروات في البلاد، فهو قسم شبه منقرض. عدا عن إفراط الأيديولوجيا المهيمنة في تحقير الناس، إذ إن لبنان يكاد يوضع في موقع المعتدي على إسرائيل، لأن هنالك من يريد أن يبتكر حججاً لمنع صحافيي الفرنكوفونية من الاستمتاع بالمالح في بيت الدين. وذلك تحت غطاء «مفاوضات السلام بين النظام السوري وإسرئيل»، هذه الحجة الوهمية التي تغيّب المسائل المتعلقة بالأرض اللبنانية على حساب التقسيمات الأيديولوجية للعبة السياسية البلهاء. فالطبقة المهيمنة في جناحها الحريري، لا مشكلة لديها في التناقض مع منطقها القومي اللبنانوي باستحضارها تجربة النظام في الشام، وكأن على اللبنانيين تقليد النظام في الشام. ويتحدثون في السيادة والاستقلال. على أن تبقي هذه الطبقة هموم شعب الجنوب والأطراف عامةً مستترة، مقموعة، كما فعلت هذه الطبقة دائماً، منذ ولادة الدولة اللبنانية ومعها «الكيان» فكانت من حيث لا تدري، أو تدري، تجر الناس إلى اللجوء إلى حزب الله وقبله الشيوعي و القومي والثورة الفلسطينية. طبعاً، هنالك من قال إن الإيحاء من جانب حزب الله وحده دون سواه بعدم مشروعية استقبال المالح هو بمثابة هدر لدمه، و بمثابة إذن، لا بل أمر بغضب «أهلي» ضد الفنان ولجنة المهرجانات، كما برهنته سابقة نزول الناس إلى الشارع رفضاً لتصوير السيد نصر الله كاريكاتورياً من دون إصدار الحزب الأمر بذلك. ولكن هذه حجة تنقلب بسهولة على صاحبها، إذ إن الناس لم ينزلوا مثلاً، إلى الشارع ضد زيارة دايفيد بيترايوس أو جو بايدن للبنان، أو ضد مشاركة أقطاب ١٤ آذار في محاضرات تنظيرية نظمتها مؤسسات صهيونية في واشنطن. الناس نزلوا، والناس الفقراء بالتحديد، ليدافعوا عما بقي لهم من رمزية يمكنهم الاقتداء بها، تماماً كما يهوى بعض البرجوازية أن يقتدي إلى حد العشق بمهرجٍ أو بأيّ شيء تظّهره الثقافة البيضاء في الغرب. فالناس الفقراء ليس لهم كلماتهم في برامج المهرجانات الدولية الكبرى (بعلبك، بيت الدين، جبيل) كما هي حال مجرمي الحرب ومدلّلي البرجوازية من هواة الفن ومن ورثة الامتيازات الذين يصوّرون احتفالياتهم أنها «للوطن» أو «للجميع».
لكن الصحافة المهيمنة لا تريد أن ترى هذا، فهي تعمل في سوى ذلك من أطر قراءة المجتمع، مهما تنوعت هذه القراءات. وتشترك هذه القراءات في تهويلها ضد الفقير في جميع «أشكاله»، ليس في معضلات أحزابه «الفاسدة» (تصوّروا أن ينتقد حزب الله مثلاً لدعمه بري)، بل في كونه «فقيراً»، في الثقافة وفي الشكل. فهنالك في لبنان من «الفنانين المحاضرين» من يهول ضد حزب الله على ضوء مدرسة فرانكفورت مثلاً. هكذا تُفهم مدرسة فرانكفورت الماركسية الجذور في جمهورية الموز والتفاح، وكأن عنوان نص والتر بنيامين عن باريس ،»عاصمة القرن التاسع عشر» استُوحِي من شعار «بيروت، مدينة عريقة للمستقبل».
تظهر الأمثلة السابقة كيف أن مجتمعاً من الكتّاب والمهنيين الصحافيين يمكنه، وبعفوية أعضائه، أن يتبع سلسلة من المواقف الشديدة التفذلك بشأن تصريح بسيط، يكاد يكون اعتيادياً، أدلت به جهة مواجهة لهم في السياسة. للظاهرة أسبابها المؤسساتية طبعاً، المتعلقة بالجريدة المعنية، وبالموقع العقائدي، وقد سبق تفصيل بعض ديناميكيتها. لكن الجانب الأبرز الذي جرى إغفاله، وهو افتراضي، حيث إنه ليس هنالك أرقام تتيح تعقبه بتفاصيله، هو «الموقع الطبقي»، مستقلاً عن دور المعنيين المتعلق بوظيفتهم. هو «الموقع الطبقي»، بمضامينه المادية والثقافية، الذي سهل قبل كل شيء تعلق الصحافيين المنتقدين لـ «المنار» كما جمهورهم من القراء غير التابعين مادياً لمؤسسات الهيمنة، بالممثل الهزلي الفرنسي. هنالك في النظام الاجتماعي أمور تحرك الأشخاص في مهنهم، مع أنها تفلت من التحليل المهني الصرف. هي ما يجعل حياة الأشخاص في مهنهم كما خارج ساعات العمل تأخذ شكل منطقٍ يشاركهم آخرون فيه، منطقٍ ليس بالضرورة بمنطقي مثل الحلقة المغلقة كما تذهب إلى استنتاجه بعض «السوسيولوجيا العفوية». فحتى الأيديولوجيا المهيمنة تحتمل التناقضات داخل منطقها كما سبق برهانه.
قد يكون في موضوعنا شكلٌ من أشكال «الفردانية» (لنسمّها كذلك) من النقاط المفصلية الأساسية، «الفردانية» عند صحافيينا تقرّبهم من الممثل الهزلي. يؤنسنونه حيث يمحو صفات الإنسانية عن مواطنيهم. يعطونه في التحليل حق الازدواجية الشخصانية، فهو غير مسؤول عن آرائه السياسية أمام مجازر فلسطين، فمجتمعه أكثر تعقيداً من ذلك، حيث يدينون مواطنيهم إلى أقصى الحدود. هكذا هو الرجل الأبيض في مجتمعنا، معزز، مكرم، سلطان. هي صفات لا شك تسبح فيها مهنهم ومواقعهم الرمزية. والفردانية من المعتقدات الباطنية، اللا ـــ واعية في أغلب الظروف، التي ترتكز عليها معظم المهن في مجتمع رأسمالي، حيث كل واحدٍ يسعى في إطار عمله إلى نيل المردود المالي المناسب، والمردود المعنوي أيضاً، أي التقدير. مجتمع يربط بين قيمة الإنسان كشخص و قيمته في مهنته، في عمله. من هنا أهمية الاسم والتوقيع في المجالات المهنية، وأخصها في المهن الرمزية (الصحافة، الفنون إلخ). فكيف كان لجاد المالح أن يكون نجماً من دون اسمه؟ أليست أعماله كلها باسمه، يتحمل مسؤوليتها، كما يدير أرباحها على أساس ملكيته لها؟ أليس بصفته الكوميدي المسمّى «جاد المالح» تضامن مع جلعاد شاليط وذكر اسمه متضامناً؟ ماذا كان سيصبح جيورجيو لو أنه لم يكافأ باسمه بجائزة «الشهيد جبران تويني»؟ وكان قد بدا شديد التأثر في حفل المكافأة. ماذا كانت قيمته لتكون؟ ماذا كان هو وغيره ليصبحوا لو أنهم لم يوقعوا مقالاتهم بأسمائهم؟ أغلب الظن أن المقالات،على الأقل، كانت لتكون خالية من «طق الحنك»... الثقافي.
* كاتب لبناني