حسام تمام *روى الإمام الترمذي في صحيحه أن النبي قال: «من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها». وقال الترمذي عن الحديث إنه صحيح غريب، وقد أخرجه الإمام الحاكم في مستدركه وابن ماجة في مسنده والبخاري في كتاب الأدب المفرد، وقال الإمام ناصر الدين الألباني إنه حديث حسن. تعامل الدعاة والمفسرون بقدر كبير من الظاهرية، بل الحرفية، مع هذا الحديث الشريف بخّسته حقه وأفقدته ما يمكن أن يتولد منه من معان أو يُستخلص منه من قواعد يمكن تنزيلها في حياتنا بما يحقق رسالة العدل بين الناس. الفهم الظاهري والحرفي للحديث، متأثر بحالة البساطة التي كان عليها المجتمع النبوي، حيث مجتمع ما قبل الدولة الذي تسوده علاقات بسيطة في كل شيء. لذلك، فهو يحمل نص الحديث على ظاهره وينزله على زمنه، معتبراً أن من يبيت آمناً في بيته من عدوه، ويتوافر على قوت اليوم ــــ بالمعني الحرفي لليوم ــــ ويتمتع بسلامة الصحة والبنيان، فهو قد استكمل جوامع خير الدنيا وليس بحاجة إلى مزيد عليه. وهو فهم تغيب عنه كل تطورات الحياة، وما نتج منها من تعقيدات ومشكلات لم تكن على عهد النبي، حين كانت العلاقات بين البشر في مستوياتها المختلفة بسيطة وسهلة ومباشرة، بل يكاد الفهم المعاصر للحديث، كما تقدّمه الكتب أو وفق ما يتردّد على أعواد المنابر ودروس الوعظ الديني، لا تختلف عما كان يفهمه سلف الأمة في عصرها الأول. الحق أنّ قراءة معاصرة للحديث يمكن أن تكون أكثر فهماً للتطورات الحديثة في الحياة الإنسانية ووعياً بتعقيداتها وتشابك علاقات العمل والصراع والعلاج، كما يمكن أن تستخلص منه قواعد أساسية تؤسس لفكرة العدل الاجتماعي في صورة حديثة أو تناسب العصر الحديث. فقول الرسول «من بات آمناً في سربه» يمكن أن تعاد قراءته وتنزيله في سياق ما عرفته الحياة الحديثة من تعاظم مسألة حماية «حرمات» الإنسان، وهو أفضل من تعبير «حقوق»، ومن ذلك تهديد أمن الإنسان وأمانه بالاعتقال التعسفي أو إخضاعه للقوانين الاستثنائية أو حرمانه حق التقاضي أمام قاضيه الطبيعي، ثم حرمانه حريته كما يحدث في الأنظمة القمعية الاستبدادية. وبالمنطق نفسه، يتجاوز قوله «معافى في بدنه» الدلالة المباشرة، أي سلامة البدن، إلى أن تحلق في فضاء حق كل إنسان في التأمين أو الرعاية الصحية. فليست المشكلة أو الابتلاء في مجرد المرض بل تتعداها إلى ضمان حق الحصول على العلاج ما تيسر هذا العلاج مهما كانت تكلفته، لا أن يكون العلاج والدواء لمن يملك وحسب. أما الثالثة في الحديث الشريف وهي قوله «عنده قوت يومه» فهي أيضاً يمكن أن تتعدى الدلالة المباشرة التي تحيل إلى فكرة الوجبات الغذائية البسيطة التي يحتاجها المرء في يومه وليلته، وربما تشير إلى ما يعرف بـ«الحق في الضمان الاجتماعي» أي ضمان حق الإنسان في أن يجد قوت يومه طبيعياً، حقه في أن يعمل عملاً يوفر له هذا القوت أو ضماناً يتكفل به حال عجزه عن العمل أو غياب فرصة العمل تلك. إنّ الفهم المعاصر للحديث يمكن أن يحيلنا إلى ما يعرف بالمسؤولية الجماعية والمجتمعية في قضايا حرمات الإنسان، وحقه في التأمين الصحي والضمان الاجتماعي. إن هذا الفهم يبدو أقرب إلى ما عرفه المجتمع الإنساني من تطور وتشابك وتعقيد يصعب معها تصور هذه الصورة البسيطة للوضع الأمثل للإنسان التي قد يظن بها البعض الطوباوية.
هذه قراءة قادني إليها نقاش مع أحد المتدينين البسطاء الذي كان يقرأ الحديث ويسلم به، لكن عقله يحاول البحث في أفق أوسع لمعانيه. وأسوقها ليس فقط للرد على القراءات الحرفية الظاهرية لنصوص دينية يمكن أن يكون لها تأثير كبير في عالمنا المعاصر، بل للرد أيضاً على النخب المثقفة التي لا تكلف نفسها عناء النظر في تراثها ودينها، فلا تقرأ الفكرة إلا مترجمة أو غارقة في الرطانة الأجنبية.
وقد كتبت هذه القراءة قبل عام تقريباً، وعثرت عليها وأنا أفتّش في أوراقي عن المفكر الراحل العظيم عبد الوهاب المسيري، الذي تحل هذه الأيام ذكراه، لقد كانت موضوع آخر حديث هاتفي بيننا. اهتم الرجل بالفكرة ودعا إلى أن نطرحها للنقاش في أول لقاء بيننا، كنت وقتها أتأهّل لإجراء عملية جراحية، وكان هو يعاني المرض، ولم ألتق به إلا في مسقط رأسه حين أدركت الدقائق الأخيرة من جنازته حيث ووري في الثرى في دمنهور بالبحيرة... رحمه الله بقدر إنسانيته التي اتسعت للجميع.
* باحث في الحركات الإسلامية